كيف شكلت مكانة الموسيقى عند الإغريق ميدان المواجهة العلمية الأولى بين شرّاح الفلسفة الإغريقية من الفلاسفة العرب والمسلمين .. و بين محيطهم!

شعار كتاب الأغاني الثاني

الخوارزمي الذي وضع كتاباً جمع فيه بين الرياضيات والهندسة و الفلك والموسيقى .. وأرسطو

في زمن الإغريق ، اعتمد الفلاسفة علوماً أربعة أساسية ، تشكل بتكاملها الخلفية المرجعية لأي فيلسوف ، يسعى لتفسير الكون ، و مظاهر الحياة ، وفهم آلية تأثيرها على الإنسان. وقد لا يفاجأ أيٌ منا إن علم بأن الحساب والهندسة والفلك ، هي ثلاثة من تلك العلوم الأربعة ، إلا أن العلم الرابع لا شك سيفاجئ الكثيرين ، لأنه كان : الموسيقى !!

لقد شكلت هذه المكانة العلمية العالية للموسيقى ، في عالم الفلسفة عند الإغريق ، ميدان أول مواجهة علمية بين شراح الفلسفة الإغريقية ، من الفلاسفة العرب والمسلمين ، وبين محيطهم ، إذ كان عليهم ، على عكس العلوم  الثلاثة الأخرى المشتركة إنسانياً ، أن يدرسوا ، وأن يشرحوا ، وباللغة العربية ، الموسيقى الراسخة في وجدان الناس في محيطهم .. وليس موسيقى الإغريق!

 وهنا قد تطرح الأسئلة التالية:

1-    بماذا تشترك العلوم الأساسية الثلاثة الأولى ؟ و لماذا ضُمت الموسيقى إليها؟

2-     هل لهذه العلوم من ترتيب على الفيلسوف اتباعه أثناء دراسته لها ؟ وفي أي مرحلة  يدرس الفيلسوف الموسيقى؟

3-     مع أي موسيقى تعامل شرّاح الفلسفة الإغريقية من الفلاسفة العرب والمسلمين؟


الكون والكواكب

بماذا تشترك العلوم الأساسية الثلاثة الأولى؟

تبين نظرة سريعة إلى العلوم الثلاثة الأولى ، أنها تشترك في اعتمادها على الرياضيات في بنائها ، فالحساب ، أي الرياضيات في المسمى الشائع حالياً ، هو العلم المجرد الأول ، ومنه يتم الانطلاق إلى فهم الهندسة ، وهي تجسيد مباشر للرياضيات المجردة في الحياة المادية للبشر ، إذ يصمم المهندسون المنشآت وفقاً لعلاقات رياضية  ، أما علم الفلك ، فهو التجسيد المباشر للرياضيات والهندسة ، في السعي لفهم تصميم وهندسة الكون ، كما أبدعه الخالق عز وجل .


فلنأت الآن إلى الموسيقى : بماذا تشترك مع العلوم الأساسية ؟ و لماذا ضُمت إلى هذه الباقة ؟

في الواقع ، العلاقة بين الموسيقى  ، والشعر ، الذي أساسه موسيقى اللغة  ، من جهة ، والهندسة والفلك ،  وفق  ما عرَّفتهما أعلاه ، على أنهما التجسيد المباشر للرياضيات المجردة في الحياة المادية للبشر ، وفي فهم تصميم الكون ، من جهة أخرى ، وثيقة جداً ، فالموسيقى ،كما الشعر ، كما الهندسة والفلك ، تستند إلى علاقات رياضية ، يكسوها المبدعون بالإحساس والجمال .. تبين الصورة الأبعاد بين مواقع أصابع اليد اليسرى على زند العود وفق الفارابي.

قسمة دساتين العود عند الفارابي

في الموسيقى والشعر ، تبنى العلاقات بين الأصوات أو الإيقاعات أو الجمل الموسيقية أو الشعرية ، وفق نسب  جمالية صوتية وإيقاعية ، لها بناء هندسي ، يشبه البناء الهندسي للمباني الجميلة ، التي تجذب اهتمام الناس ، والبناء الكوني للأبعاد بين الكواكب والمجرات. في العمارة تدعى تلك النسب بالنسب الذهبية ، وفي الموسيقى ، تدعى بالأجناس والمقامات والإيقاعات والأشكال اللحنية .. وفي الشعر ، تدعى بالبحور والقوافي وفنون الشعر.. هي نسب متشابهة الطبيعة ، ولكنها غير متطابقة..  فللأذن نسبها .. و للعين نسبها المختلفة..

قصر الحمراء 1من هنا  ، أستطيع أن أقول ، أن الشعر والموسيقى هندسة صوتية ، والهندسة المعمارية ، هندسة بصرية إنسانية ، والفلك ، هندسة بصرية كونية .. ، وبالتالي ، أعتقد أن الموسيقى ضُمت إلى العلوم الأساسية الثلاثة الأولى ، لأنها أيضاً تستند إلى الرياضيات ،  ولكن الحاجة إلى دراستها ، أتت من كونها تختلف عن تلك العلوم الثلاثة ، بأنها لا تختص بالماديات ، بل بالإنسان .. نعم .. لقد كانت دراسة الموسيقى ضرورية للفلاسفة ، في محاولتهم فهم خفايا النفس البشرية ، وتحولات المزاج الإنساني ، فهي إذاً ، في رأيي ، تمثل الإنسان ، في منظومة العلوم الأربعة الأساسية..


سآتي الآن إلى السؤال الثاني: هل لهذه العلوم الأربعة من ترتيب كان على الفيلسوف اتباعه أثناء دراسته لها ؟ وفي أي مرحلة يدرس الفيلسوف الموسيقى؟

استمتاع بالموسيقىأعتقد أن هناك ترتيباً خفياً لدراسة العلوم الأربعة الأساسية ، ألمحت إليه فيما كتبت أعلاه ، فالحساب يأتي أولاً ، ثم الهندسة ، فالفلك .. فمتى تأتي مرحلة دراسة الموسيقى ؟ في رأيي : تأتي دراسة الموسيقى في ختام دراسة تلك العلوم ، والسبب يعود إلى صعوبة فهم تأثيرها العميق على الإنسان ، ومنذ اللحظات الأولى لولادته .. إن لم يكن في بدايات تشكله .. فهي مجردة ، لا ترتبط بكلمة أو بمادة ملموسة ، كما هو حال الهندسة والفلك ، كما أنها تتفرد ، أيضاً ، ومن خلال تأثيرها على المزاج الإنساني  ، بارتباطها بالزمن ، أي بحركة الكون ، وما تؤثره على سوائل جسم الإنسان من قوى ، تنتج حركات مد وجزر ، تتحكم في مزاجه ، ما يجعل من الضروري ، أن يدرس الفيلسوف الفلك ، قبل السعي لفهم ارتباط عناصر الموسيقى  الهندسية  بحركة الكون ، ومن ثم إسقاط كل هذا على المزاج الإنساني .. ما يقوده إلى ضرورة أن يدرس الموسيقى بعد أن يتقن العلوم الثلاثة الأساسية الأولى ..


أصل أخيراً  إلى الإجابة عن السؤال الثالث: ماذا عن فلاسفة العرب الذين اعتمدوا الفلسفة الإغريقية ، ومع أي موسيقى تعاملوا؟

لقد درس علماء العرب الفلسفة الإغريقية ، انطلقوا منها ، وشرحوها ، ثم طوروها ، وأضافوا الكثير في الحساب والفلك والهندسة .. ولكن مشكلتهم ، لدى مواجهة الموسيقى ، كانت في أنهم لا يستطيعون فعل الشيء ذاته معها.. فالحساب والهندسة والفلك ، علوم لاتختلف باختلاف الشعوب .. أساسياتها واحدة ، وبالتالي كان الانطلاق من أساسيات إغريقية أو حتى بابلية  أو هندية ، ومن ثم شرحها و تطويرها ، ممكناً ، أما في الموسيقى ، فلكل شعب موسيقاه ومزاجه .. من هنا كانت دراسات الفلاسفة العرب والمسلمين في الموسيقى العربية ، أصيلة بالكامل ، صحيح أنها استندت إلى دراسات الإغريق في الموسيقى ، التي تُرجمت وشُرحت ، ولكن مسارات التطوير اتجهت  ، وبعد امتلاك الفلاسفة العرب والمسلمين ،  لأدوات العلوم الأساسية الثلاثة الأولى ، إلى دراسة أساسيات الموسيقى العربية ذاتها ، لحناً وإيقاعاً وآلات موسيقية ، باستخدام الأدوات المعرفية المحققة ، من خلال دراستهم لأساسيات الموسيقى الإغريقية ،  و من ثم السعي لفهم ارتباط عناصر الموسيقى العربية الهندسية بالعلوم الثلاثة الأولى ، وخاصة الفلك ، فكانت تلك أول مواجهة علمية حقيقية بينهم ، وبين محيطهم العربي ، إذ كانت منشوراتهم باللغة العربية…

كلمة أخيرة

هل كنت مغالياً فيما ذهبت إليه ، من إعطاء الموسيقى هذه المكانة العلمية ، على الأقل في زمان الفلاسفة العرب والمسلمين الأوائل ؟ أترك هذا لكم .. ولكن لنتذكر أن الإنسان الذي استطاع تحقيق إنجازات علمية لا حصر لها ، لم يتمكن حتى الآن ، من أن يحدد آلية تأثير الموسيقى على الإنسان ، ويبين أسباب اختلاف تأثيرها ، في المجمل ، من إنسان إلى آخر ، ومن ساعة لأخرى ، هذا إن لم ندخل في تفاصيل اختلاف تأثير عناصرها علينا .. وما أكثرها!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.