غناء اليوم يغلب عليه نصٌ سفيه وإيقاعٌ سريع و لحنٌ سخيف وجماهيريةٌ عريضة؟ لاعجب .. فالتاريخ يعيد نفسه!

شعار كتاب الأغاني الثاني

كثيراً ما نعيب على غناء اليوم ، الذي يحقق الجماهيرية العريضة ، تركيزه على الإيقاع السريع ، و على الكلمات والألحان الفارغة من أي معنى أو تعبير أو رسالة ، فهل هذا شيء جديد ؟ بالطبع لا! فالتاريخ يعيد نفسه كما سنرى .. ومع ذلك ، فإنني آمل أن يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى!

الخبر التالي من كتاب الأغاني الذي ورد ضمن أخبار حكم الوادي يدلنا على أن الواقع الذي وثقه الأصفهاني في كتابه ، عن فترة نهضة غنائية مشهودة ، لم يكن يختلف كثيراً عما نشهده الآن .. ويذكِّرنا بأن الفترات التي خطف فيها الزمان من الغناء السائد جولاتٍ ، ركز فيها الغناء على النصوص الرصينة وعلى الإيقاعات الوقورة وعلى الألحان المعبرة ، كانت دائماً تنتهي للأسف لصالح النصوص الهابطة والإيقاعات السريعة و الألحان المكرورة .. منهية أي توازن ثري يغطي الأطياف جميعها..

 حكم الوادي

قال الأصفهاني عنه :  هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك. وكان أبوه حلاقاً يحلق رأس الوليد، فاشتراه فأعتقه. وكان حكم طويلا أحول، يكرى الجمال ينقل عليها الزيت من الشام إلى المدينة. ويكنى أبا يحيى. وقال مصعب بن عبد االله بن الزبير: هو حكم بن يحيى بن ميمون، وكان أصله من الفرس، وكان جمالاً ينقل الزيت من وادي القرى إلى المدينة. وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنه كان شيخاً طويلاً أحول أجنأ يخضب بالحناء، وكان جمالاً يحمل الزيت من جدة إلى المدينة، وكان واحد دهره في الحذق، وكان ينقر بالدف ويغني مرتجلاً، وعمر عمراً طويلاً، غنى الوليد بن عبد الملك، وغنى الرشيد ومات في الشطر من خلافته، وذكر أنه أخذ الغناء من عمر الوادي.

الخبر

ذكر أحمد بن المكي عن أبيه: أن حكماً لم يشهر بالغناء ويذهب له الصوت به حتى صار الأمر إلى بني العباس؛ فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وذلك في خلافة المنصور؛ فأعجب به واختاره على المغنين وأعجبته أهزاجه ( الأهزاج في مصطلحات ذلك الزمان هي الإيقاعات الفرحةالسريعة والمفرد : إيقاع الهزج ) . وكان يقال: إنه من أهرج الناس. ويقال: إنه غنى الأهزاج في آخر عمره، وإن ابنه لامه على ذلك، وقال له: أبعد الكبر تغني غناء المخنثين! فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنيت الأهزاج منذ سنيات فأكسبتك ما لم تر مثله قط.

وكمثال على أهزاجه أورد الأصفهاني الخبر التالي:

ذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن أحمد بن المكي حدثه عن أبيه قال حدثني حكم الوادي، وأخبرني به محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي عن حماد بن إسحاق عن أحمد بن المكي عن أبيه عن حكم الوادي قال: أدخلني عمر الوادي على الوليد بن يزيد، وهو على حمار، وعليه جبة وشي ورداء وشي وخف وشي، وفي يده عقد جوهر، وفي كمه شيء لا أدري ما هو. فقال: من غناني ما أشتهي فله ما في كفي وما علي وما تحتي:

فغنوه كلهم فلم يطرب؛ فقال لي: غن يا غلام، فغنيت:

إكليلها ألوان ووجهها فتان
وخالها فريد ليس له جيران
إذا مشت تثنت كأنها ثعبان

الشعر لمطيع بن إياس. والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى. وفيه لإبراهيم رمل خفيف بالوسطى – فطرب وأخرج ما كان في كمه، وإذا كيس فيه ألف دينار، فرمى به إلي مع عقد الجوهر؛ فلما دخل بعث إلي بالحمار وجميع ما كان عليه. وهذا الخبر يذكر من عدة وجوه في أخبار مطيع بن إياس.

ألا يذكرنا هذا بغناء اليوم؟! إنه التاريخ يعيد نفسه..

أملنا: دورة جديدة للتاريخ!

أملنا أن يتابع التاريخ إعادته لنفسه مجدداً .. ففي بداية عصر النهضة الموسيقية في القرن العشرين كان الغناء فيه ابتذال فرفضه مجتمع ناهض لعشرات السنين ، ثم عاد الإيقاع السريع و الكلام السفيه واللحن السخيف مجدداً ، فهل يأتي يوم يرفض فيه الشباب ذلك النوع من الغناء ، مثلما رفض ابن حكم الوادي غناء أبيه!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading