الموسيقي المهندس سعد الله آغا القلعة .. عالمان في شخص واحد – بقلم حسن م. يوسف

أجرى الحوار :حسن م. يوسف                                           
جريدة تشرين – الأول من شباط 1992

في أحيان كثيرة يبدو لي إن حياة واحدة لا تكفي لكي يعرف الإنسان الحياة حقاً، في وجه من وجوهها، ويتمكن من استخدام معرفته لإغناء ذلك الوجه وتغييره. إلا أنني، عندما تعرفت على الفنان الدكتور المهندس سعد الله آغا القلعة، تساءلت كيف لإنسان واحد أن يحقق كل هذا الكم من العمل في حياة واحدة، بل في نصف حياة، ذلك لأن آغا القلعة لا يزال شابا في الأربعين ، العمر كله، كما يقولون !لقد حقق د. آغا القلعة حضوراً متميزاً في ساحتين متباعدتين، ساحة العلم وساحة الفن.

فهو في ساحة العلم مهندس وأستاذ في كلية الهندسة بجامعة دمشق درّس مواد المساحة وبرمجة الكومبيوتر لسنوات وأدار الحاسب الإلكتروني في الجامعة لسنوات .

وهو يشغل حالياً منصب رئيس وحدة ا لمساحة والجيوديزيا الدقيقة في جامعة دمشق.

أما في ساحة الفن فهو عازف قانون قدير وباحث موسيقي طويل الباع، وقد عزف وحاضر في العديد من البلدان وشارك في عدد من المهرجانات والمؤتمرات الموسيقية وقد بدأ منذ عام 1985 بتقديم برنامج عن الموسيقا في التلفزيون العربي السوري زادت الحلقات المقدمة منه حتى الآن عن المئتين.

في عام 1978 صدرت له اسطوانة للعزف على القانون في باريس ، ومن المتوقع أن تصدر له أسطوانة أخرى قريباً ، وله كتابان تحت الطبع هما ” الموشحات الأندلسية ” و ” أعلام الموسيقا العربية “.

مع سعد الله آغا القلعة كان لنا هذا الحوار :

– أنت موزع بين عالمين عالم الهندسة والكومبيوتر وعالم الموسيقا والتلفزيون. في أي العالمين تجد نفسك أكثر. وكيف توصلت إلى تحقيق هذه المعادلة الغريبة؟

شخصية ثنائية البعد

آغا القلعة : لا أستطيع أن احدد منذ البداية حكمت الظروف هذا المسار ولعل بناء الشخصية تم من خلال تلك الظروف، بحيث أنني اليوم، كلما أحسست أن واحداً من هذين العالمين يجذبني أكثر، أرى نفسي متمسكاً بالجانب الآخر.

– هل لك أن تحدثنا عن الظروف التي أنتجت هذا التنوع بالاهتمامات؟ !

آغا القلعة : هناك شخصيتان أثرتا في بناء الشخصية المتنوعة لدي الأولى هي والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة الذي درس طب الأسنان في جامعة دمشق ودرس الموسيقا في اسطنبول وقد كان أبي شخصية ثنائية البعد فعلاً فقد برع في طب الأسنان وسارت شهرته في مدينة حلب ” كما برع في الموسيقا فأصدر كتباً ومؤلفات في ذلك الموضوع ثم افتتح على حسابه الخاص المعهد الأول للموسيقا في حلب وقد جعل الدراسة في ذلك المعهد مجانية بينما كان هو يتولى دفع رواتب الأساتذة وشراء الآلات للمعهد مما كانت تدره عليه مهنته كطبيب أسنان.

بعدها صار مديراً لإذاعة حلب لعدة سنوات ومن خلال هذين المنصبين كان يساهم في دفع الحركة الفنية الموسيقية في حلب إلى الأمام وعندما أمم المعهد الموسيقى في نهاية الخمسينات طلب إليه أن يستمر في عمله كمدير للمعهد فاستمر لأن غايته من المعهد لم تكن تجارية بل نشر الفن الراقي وقد لعبت مكانته الاجتماعية دوراً هاماً في تنشيط الحركة الموسيقية بين شتى شرائح الشعب.

– كيف؟

استمرار الأب

آغا القلعة : كان المعهد يضم آنذاك قسمين الأول للشباب والثاني للشابات. وكانت الحفلات تؤدى بشكل مختلط. وكان الضمان أمام العائلات التي تشارك بناتها في الحفلات أن المدير هو فلان ، ربما لسبب المكانة التي كانت تتمتع بها مهنة الطب آنذاك. وأعتقد أن أبي أحسن توظيف بعديه كطبيب وكموسيقي في دعم الحركة الموسيقية في حلب ، ولم يكن ليقدر أن ينفذ ما نفذه لو كان موسيقياً فقط ، وأعتقد أنني بشكل ما، أحقق استمرار هذا النوع من الشخصية.
على التوازي مع دراستي للموسيقى ، كنت أتابع دراستي العلمية ، فبعد حصولي على الشهادة الثانوية عام 1967 ، وحصولي على مجموع يؤهلني لدخول كلية الطب في دمشق ، قررت دخول عالم الهندسة ، متأثراً بأجوائه ، إذ كانت شقيقتي هزار ،  الطالبة في كلية الهندسة ، و التي تكبرني بخمسة عشر عاماً ،  تصطحبني معها ، في الكثير من الأحيان ، إلى النشاطات التي كانت تقيمها الكلية ، ومنها رحلات علمية كانت تتضمن شروحات ، تجذب اهتمامي ، وتجعلتي أتخيل نفسي في عداد طلاب الكلية!

الشخصية الثانية التي أثرت بي ، ووجهتني إلى تنويع المواضيع التي أعمل عليها ، في آن واحد ، إلى جانب شخصيات في العائلة ، كانت أستاذي البروفسور فيليب هوتييه ، الذي أشرف على بحثي للحصول على الدكتوراه في الهندسة في فرنسا ، فقد قال لي منذ البداية ، بأنه سيسعى لأكبر استفادة مني من خلال البحث الذي سأقوم به، لاعتقاده بأن العرب، بشكل عام، لديهم الحدس الذي يدل الباحث على الطريق السليم.

كان يعتقد أنني، كعربي، قد أتفوق بالحدس، إلا أن أدواتي العلمية قد تكون غير كافية، لذا طلب مني أن أتجه لدراسة الكثير من الموضوعات العلمية في وقت واحد.

– مثلاً ؟

موضوعات متعددة في وقت واحد

آغا القلعة : طلب مني أن أمتلك ناصية التعامل مع الكومبيوتر عبر دراسة خاصة، كما طلب مني دراسة الفلك والإحصاء إضافة لكوني مهندساً مدنياً أتعامل مع البيتون والحجر.

وقد تابع هذا المسار من خلال تكليفي بإنجاز العديد من الموضوعات في وقت واحد.

كان شخصية فريدة لا مثيل لها بين الأساتذة الآخرين، وهكذا، شيئاً فشيئاً بدأت أتعود على متابعة عدة موضوعات متباعدة في آن واحد.

– كيف انعكس هذا عليك في ما بعد؟

آغا القلعة: انعكس في أن البحث الذي قمت به لم يكن مجرد بحت علمي وحسب بل كان بالإضافة إلى ذلك بحثاً إنسانياً تدخل فيه عناصر لم يكن بمقدوري أن أتوصل إليها لولا ذلك الحدس الذي أشار إليه الأستاذ والتمكن من الأدوات العلمية اللازمة يضاف إلى ذلك أنني عندما عدت إلى الوطن في مطلع الثمانينيات كانت أبواب توظيف تعدد الاختصاصات، الذي أتيح لي مفتوحة ، فقمت بتدريس مادتين مختلفتين في الجامعة: هما الهندسة الجغرافية باختصاصاتها المختلفة وبرمجة الكومبيوتر وقد قادت برمجة الكومبيوتر إلى دخولي بشكل فعال في عملية جديدة ظهرت في سورية ابتداء من عام 1985 وهي عملية القبول الجامعي عبر استخدام الكومبيوتر.

أما الهندسة الجغرافية فقد تابعتها عبر التدريس وعبر إنجاز العديد من المشاريع الطبغرافية وأهمها مثلاً، وضع مخططات لمحافظة كاملة هي محافظة درعا.

– ماذا عن عالمك الآخر، الموسيقا؟متى بدأت علاقتك بها وكيف تطورت؟

أستاذ بعمر تلاميذه

آغا القلعة: علاقتي بالموسيقا بدأت في المعهد الموسيقي الذي كان الوالد يديره في حلب، وباعتبار أنني كنت ابن المدير فقد قبلت طالباً منذ سن الخامسة، بينما كان القبول يقتصر على ما فوق السادسة عشرة ، وهكذا وجدت نفسي مع زملاء أكبر مني بكثير، مما أتاح لي أن أدرس الموسيقا على يد كبار أستاذة الموسيقا في حلب في منتصف الخمسينات، كان أستاذي على آلة القانون هو الأستاذ شكري إنطاكي، أطال الله عمره، ومع أنه كان يعمل محللاً مخبرياً بالإضافة إلى تدريس الموسيقا،فقد كان يتتبع آخر الأبحاث الموسيقية وينقلها لطلابه أولاً بأول ولا يزال عندي كتاب كامل بخط يده يتضمن بحثاً موسيقياً للعالم التركي الشهير رؤوف يكتابك.

بعد تأميم المعهد تابعت دراستي فيه،وعندما أصبحت في السادسة عشرة من العمر تحولت إلى أستاذ في المعهد.ونظراً لصغر سني تم الحصول على موافقة خاصة من وزارة الثقافة وهكذا بدأت بتدريس طلاب هم في مثل سني أو أكبر.

– أفهم أنك خلال دراستك العادية كنت تعلم الموسيقا؟

أبواب مفتوحة

آغا القلعة : نعم.لذلك عندما تخرجت من جامعة حلب وتقرر إيفادي للتخصص في فرنسا توقفت عن التدريس في المعهد.

– ماذا عن نشاطك الموسيقي في فرنسا؟

آغا القلعة : في فرنسا وجدت الأبواب مفتوحة أمامي لتقديم الموسيقا العربية للفرنسيين وقد فعلت ذلك باللغة الفرنسية التي تعلمتها هناك.بعد أن كانت كل دراستي هنا باللغة الإنكليزية. ونظراً لتمرسي في إقامة الحفلات الموسيقية في معهد حلب منذ أن كنت في السادسة من العمر،لم أكن أخشى مواجهة الناس، فكنت ألقي المحاضرات باللغة الفرنسية، و أنا حديث العهد بها. وأعطي شواهد بالعزف على القانون.

وقد حاضرت في مختلف المراكز الثقافية الفرنسية هذه المحاضرات شكلت دفعاً لي باتجاه البحث الموسيقي. ذلك لأن كل محاضرة كانت بالنسبة لي بمثالة بحث صغير أعالجه كما أعالج الأبحاث التي كان أستاذي في الجامعة يكلفني بها.

– وداعاً للنشاط الموسيقي

عندما عدت إلى سورية لم أكن أنوي متابعة خط الموسيقا فمركزي كأستاذ في الجامعة وانغماسي بالمشاريع الهندسية سيأخذ أغلب وقتي أما نشاطي الموسيقي الذي وصل إلى أوجه في فرنسا، عبر العديد من الحفلات والاستضافات في الراديو الفرنسي، وصدور تسجيلات خاصة بي هناك،فقد قررت في ذلك الحين أن أودعه، وأن أتابع المسار العلمي فقط، على الأقل من حيث النشاط العام، على أن أتابع البحث والعزف ضمن نطاق خاص جداً.

– ما الذي جعلك تتخلى عن ذلك القرار ؟

آغا القلعة: لقد لعبت الصدفة دوراً في ظهور توظيف جديد لذلك الجانب من نشاطي وهو التلفزيون فعندما افتتحت القناة الثانية عام 1985 كان الصديق رياض قدسي يقدم برنامجاً عن الموسيقا الغربية في البث التجريبي ، وقد سألته مديرة القناة الثانية آنذاك السيدة لين الأتاسي عن شخص يستطيع أن يتحدث عن الموسيقا العربية ضمن البث التجريبي فكان أن اتصلت بي واستجبت للطلب. وبدأت تقديم برنامج أسبوعي مدته ساعة بعنوان / العرب والموسيقا/ وقد كان ذلك البرنامج بمثابة دافع لاستعادة الأبحاث الموسيقية التي كنت قد علقتها لصالح نشاطي العلمي.

– برنامج مرتجل

كان البرنامج كالطاحون إذ ليس من السهل تقديم ساعة تلفزيونية كل أسبوع لشخص لا يريد الوقوع في الكلام المجاني لذا حرصت أن يكون في كل حلقة عنوان يتم عرضه كاملاً وتحليله والوصول من خلاله إلى نتيجة مفيدة للمشاهد.

وبما أنني لا أخشى مواجهة الناس لم تكن مواجهة الكاميرا مشكلة بالنسبة لي.

ونظراً لأنني متعود أصلاً، على الارتجال في العزف وإلقاء المحاضرات فقد قدمت برنامجي مرتجلاً. كنت أجلس أمام الكاميرا وعندي الأفكار الرئيسية وأتحدث عن الموضوع ثم تتم إضافة الشواهد الغنائية أو الموسيقية المناسبة.

– قرأت اسمك على بعض الخرائط السياحية ،ما إسهامك في هذا المجال أيضاً ؟

آغا القلعة: ذلك يدخل في أحد مجالات اختصاصاتي العلمية وهو : الكارتوغرافيا،أي صنع الخرائط.

وقد وجدت باباً مفتوحاً لهذا العلم في وزارة السياحة التي كانت تبحث عمن يضع لها دراسة عن الخرائط السياحية وإمكانية استخدامها ضمن نشاطها السياحي وقد أعطاني هذا التوجه دفعاً لتحقيق العديد من النشاطات العلمية وتقديم خرائط سياحية لسورية.

مشاكل الارتجال

– دعنا نرجع إلى برنامجك “العرب والموسيقا” الذي تقدمه مرتجلاً ما هي أهم مشاكل الارتجال برأيك؟

آغا التلعة: أهم مشاكل الارتجال هو أنه في الأصل مغامرة يقبل المرء بها. وهو يحتاج إلى الجو الملائم فالتواجد في مكان مثل قصر العظم أمام البحرة ووسط الخضرة والعمارة العربية الإسلامية الجميلة والزخارف البديعة، لابد أن يجد صداه في رنين أوتار العازف. فمثل هذا الجو يساعد العازف، دون شك، على الوصول إلى ما لم يكن يحسب أنه يستطيع الوصول إليه. لكن ماذا

عن جو التصوير التلفزيوني الذي لا يوجد فيه أي عنصر يساعد على الارتجال. الإضاءة التي تبهر البصر والظلمة المحيطة خارجها. صوت المخرج يصيح من الكونترول ابدأ تأخر بدء التصوير لساعة أو ساعتين لأن الإضاءة غير جاهزة ، تعطل الكاميرا في منتصف الحديث واضطرارك للعودة من البداية لأنك لا تعرف إلى أين وصلت ، انتهاء شريط التسجيل قبل أن تنهي أنت الفكرة التي تود قولها ، وفوق هذا كله عليك أن تتصور أمامك جمهور يستمع إليك وأن الموضوع الذي تتحدث فيه يهم كل الجمهور .في الجامعة يستطيع الأستاذ أن يثق باهتمام الطلاب بكلامه لأنهم سيقدمون فيه امتحاناً . أما في التلفزيون فتتداخل الأفكار، فقد تفكر وأنت ترتجل بالمشاهد الذي لا يهتم بالموسيقا وبآلاف أجهزة التلفزيون التي ستنتقل إلى أقنية أخرى ، مع ذلك عليك أن تحاول تحميل أفكارك دفقاً حيوياً لا متناهياً غايته إيصال الفائدة إلى كل الناس، رغم علمك بأن الأسلوب المنهجي العلمي في طرح الموسيقا يهم شريحة صغيرة من الناس بعكس الأسلوب اللاعلمي الذي يعتبر الموسيقا للتسلية والمتعة فقط.

خطر المزاجية

– ما هي أهم مخاطر الارتجال ؟

آغا القلعة : من مخاطر الارتجال أن يدخل المتكلم في باب المزاج الشخصي لأنك في لحظة الانفعال قد تنسى أنك تتحدث إلى عدد كبير من الناس ولا يصلح أن تعبر الحدود بين الموضوعية العلمية والمزاجية الشخصية ، خاصة أنك تتحدث عن فن ، والفنون كانت دائماً مجالاً يتداخل فيه العلم بالمزاج والعاطفة والذوق.

– أنت إنسان علمي مع ذلك فأنت تعتمد الارتجال في العديد من نشاطاتك كيف تفهم الارتجال ؟

آغا القلعة : صحيح أنني أعتمد الارتجال في العديد من نشاطاتي وقد يبدو هذا متناقضاً مع العلمية التي أعتمدها أيضاً ،لكن الارتجال الحقيقي هو المبني على اختزان هائل للعديد من الخصائص التي يبنى عليها العلم أو الفن.

أذكر هنا أنني ألقيت مرة محاضرة في النادي العربي بدمشق عن الارتجال وقد ارتجلتها كالعادة ، بعد قليل قلت للمستمعين :ألم تلاحظوا أنني تلكأت في البداية،ثم صار لصمتكم بعد قليل نغم آخر ؟ وصار الكلام عندي لا يتوقف؟ هذا هو الارتجال.

الارتجال هو حوار ثنائي الجانب بين المرتجل والمتلقي فإن أحسن المرتجل البدء حصل على التواصل ونشأ الحوار الذي تنقله أشعة غير مرئية،ولكنها محسوسة فتعطي دفعاً للمرتجل ينقله إلى عوالم ليس بإمكانه أن يصل إليها منفرداً. إن لم يحسن المرتجل إطلاق الحوار بينه وبين المتلقي ، تحول الارتجال إلى مغامرة خاسرة يصعب تجاوز نتائجها!

حسن م. يوسف

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.