مراحل تطور العلاقة التفاعلية بين عناصر الصورة  وعناصر الأغنية المصورة حتى مرحلة الفيديو كليب

شعار كتاب الأغاني الثاني

عبد الوهاب في أغنية ضحيت غرامي عشان هناكي

منافذ الأغنية العربية قبل السينما

كانت الأغنية العربية قبل السينما تجد منافذها للوصول إلى الجمهور عبر ثلاث وسائل أساسية :

  • الحفلة التي تنشطها عوامل طقوس الحياة الاجتماعية ، فتحقق اجتماع متذوقي الفن ، في موقع تقدم فيه الأغنية مباشرة أمام الناس.
  • الأسطوانة حيث الاستماع عبر صندوق السمع في البيت الهادئ مع العائلة .
  • المسرح الغنائي الذي يجتذب المشاهد للفرجة المسرحية ، حيث يتداخل الحدث مع جمال الصوت وجمال الألحان.

أثرت كل وسيلة من وسائل تقديم الغناء في الأغنية العربية بشكل مختلف ، لكنها لم تكن تستطيع تقديم الوضع الأمثل في لحظة واحدة ، فالأسطوانة تنقل الصوت عبر الحدود والدول ، ولكنها لا تنقل صورة  المبدع ، أما الحفلة فهي كما أغنية المسرح الغنائي ، تقدم  المبدع أمام  الجمهور ، لكنه مضطر للسفر والترحال من بلد لآخر لتقديم أغانيه، ناهيك عن صعوبات الاستماع إلى الصوت ، في ظل عدم توفر أدوات لتكبيره.

السينما قدمت الوضع الأمثل وحرضت الإبداع

أتت السينما لتحقق أولاً نقل صورة المغني للجمهور عبر مئات الأميال فحققت له النجومية من جهة ، ولكنها وجهت السينما نحو الغناء ، الذي تعشقه الأذن العربية ،من جهة أخرى ، فكان أن اتجه الإنتاج السينمائي الجديد ، كما كانت الحال في المسرح في بداياته ، نحو الغناء.

وتسارع الطلب على الأغنية في سياق الفيلم السينمائي ، مما دفع الملحنين للاهتمام بهذه النافذة الجديدة لألحانهم ، وسرعان ما شهدت الأغنية العربية تحولات جذرية ،في عناصر النص واللحن والأداء ، ساهمت الصورة في تحقيقها مساهمة فعالة.

وكان من حسن حظ الأغنية السينمائية ، أن توافق دخول السينما عالم الغناء العربي ، مع تواجد جمهرة من كبار الملحنين والشعراء الذين أدركوا التأثير المتبادل بين الصورة والأغنية ، فدخلوا معترك التجريب لتحديد ملامح الأغنية العربية السينمائية الجديدة ، ومنذ الأفلام الأولى!

عناصر السينما تفرض وجودها على الأغنية العربية

كانت الأغنية العربية قبل السينما مرتبطة ،من حيث الشكل اللحني ، بالمنافذ الثلاثة لإيصالها لجمهور. وهكذا ارتبطت الأغنية في الحفلة بالتطريب ، وأغنية الأسطوانة (فيما عدا توثيق أغاني الحفلات) بالامتداد اللحني والصوتي ، مع تقييد مدة الأغنية ، وأغنية المسرح الغنائي بالتعبير ، دون أن تستطيع الأخيرة ، والتي من المفترض أن تكون الأقرب إلى عالم الصورة ، أن تدخل عالم عصر القرن العشرين ،لأن أغلب القصص المقدمة في المسرح الغنائي كانت مقتبسة من التاريخ ، وتدور في عصور ماضية ، كما أن عنصر الوقت لم يكن ملحاً كما في السينما .
وهكذا كان لابد من أن تكون للأغنية السينمائية الجديدة عناصر خاصة بها ، هي في العموم وليدة التلاقح مع الصورة  السينمائية ، بعناصرها الأساسية المرتبطة بالشكل والمضمون والزمن وتطور الأحداث.

لم يستطع الفيلم الغنائي العربي الأول(نشيد الفؤاد 1932) أن يحقق أي نجاح يذكر ، لأنه لم يلق بالاً للصورة وتأثيرها ، فأتت أغنياته وكأنها تؤدى في حفلة تم تصويرها ، وكان هذا عاملاً حاسماً في تنبه الملحنين ، بتحريض من المخرجين، إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار للظروف الجديدة.

المرحلة الأولى

جاء فيلم الوردة البيضاء للأستاذ محمد عبد الوهاب (1933 – إخراج محمد كريم ) ليحقق بداية وضع ملامح الأغنية السينمائية، المتأثرة  بإيقاع الفيلم ، فجاءت المقدمة الموسيقية مختصرة تماماً ،كما  اختصرت مدة الأغنية ككل للتوافق مع إيقاع الفيلم ، مما ساهم في غياب عنصر الإرتجال في الأغنية السينمائية  ، بعد أن تعارض مع السينما ، من حيث المدة اللازمة ، ومشاكل عدم توافق حركة الشفاه مع العنصر السمعي (اللبسنغ) .
تميزت هذه المرحلة بأن الصورة كانت تحاول التعبير عن مضمون الأغنية ، وكانت الأغنية تحاول أن تتاقلم مع إيقاع الصورة ومع مضمون الفيلم من حيث النص واللحن والأداء التعبيري.
كان من أهم ما طرح أولاً مشكلة تيترات الفيلم ، على أي لحن ستعرض ،وهل سيوضع لها لحن خاص ؟ ساهم هذا في أن وضع الأستاذ عبد الوهاب أول مقطوعة موسيقية لاتتبع القوالب التقليدية في التأليف الموسيقي الآلي  (فانتازي نهوند) . كما طرح موضوع دخول الأغاني في الفيلم ، فأتت أولاً أغنية محشورة لاعلاقة لها بالفيلم (جفنه علم الغزل : صورت بالدوبلاج ، وسببت ظهور مشاكل عدم التوافق بين حركة الشفاه في الصورة مع اللحن المسموع ، مما تطلب تصوير عبد الوهاب عن بعد و تغطية بعض المقاطع بصورة خارجية) ، فيما جاءت أغنيات أخرى في سياق الحدث الدرامي للفيلم متلازمة مع صورة معبرة عن مضمونها (ضحيت هناي عشان هناكي: المغني أمام قضبان الباب الخارجي للفيلا التي تقيم فيها حبيبته ، حيث تعبر القضبان عن قضبان السجن الذي ستعيش فيه بعد اضطراره للتخلي عنها ، ناداني قلي إليك: مقدمة موسيقية تعبيرية عن اقتراب الحبيبة من المغني،..) .

ظهر التفاعل واضحاً بين الصورة ومضمون الأغنية في أغنية منيت شبابي لأم كلثوم ( نشيد الأمل 1937 المخرج أحمد بدرخان) عندما يتحدث النص عن فتاة فقيرة تحلم بتحولها إلى سيدة غنية فتتحول الصورة في تمازج بين الواقع والخيال ، حيث تأتي اللازمة الموسيقية في تصاعدها اللحني معبرة عن تصاعد الخيال والطموح للانتقال من حال إلى حال ، كما سمحت السينما للمغنين أن يناقشوا الواقع الاجتماعي لمهنة الغناء ، ( أفلام فريد الأطرش وأسمهان وعبد الحليم حافظ على سبيل المثال).
استمر الحال في هذا الاتجاه: تعبير الصورة عن مضمون الأغنية ، وتعبير الأغنية عن مضمون الفيلم عبر دخولها في سياق الحدث الدرامي ، في أمثلة عديدة (قصيدة أصون كرامتي لأم كلثوم : فاطمة 1948 إخراج أحمد بدرخان : عندما يرسم الطريق الطويل الممتد صعوبة طريق من يسعى لصون كرامته..)

المرحلتان الثانية والثالثة

تميزت المرحلة الثانية  بتفاعل أوضح (الصورة أصبحت هي الحدث الذي تعبر عنه الأغنية: يادنيا ياغرامي ، حيث تعبر الصورة عن انحراف في العلاقة بين الحبيبين خلال الأغنية فينعكس التعبير اللحني من السعادة للشقاء..) كما تميزت المرحلة الثالثة بمحاولة الأغنية التعبير عن مقولة الفيلم ، ونقطة الذروة فيه (ليالي عاشق الروح والصورة تنقل دموع الأستاذ حمام / نجيب الريحاني ، عندما مسّت مضامين الأغنية واقع الحال ..) ، لتصل استثمارها إلى حدها الأقصى في : أوبريت قيس وليلى ، وأوبريتات وحواريات وفريد الأطرش ، وصولاً إلى محاولة تقديم أوبرا سينمائية: أوبرا عايدة في عام  1942 ، التي فشلت ، لأسباب عديدة ، منها طولها المتعارض مع إيقاع السينما. كان نجاح السينما الغنائية قد أغرى الملحنين بإمكانية تجاوز إيقاع الفيلم ، وقد ثبت أن هذا الرهان لم يكن صحيحاً.

نجاح الأغنية السينمائية عبر العالم العربي وفر لها إمكانات غير مسبوقة

ثم كان أن تطورت وسائل التصوير  ، وإمكانات الإنتاج المادية ، بسسب اتساع سوق الأفلام ، لتمتد إلى جميع الدول العربية ، ما وفر أدوات إغناء الصورة ، فدخلت الأغنية السينمائية عالم الاستعراض ، كما أمكن إدماج الفرقة الموسيقية الأوركسترالية في أداء الأغاني لإغناء الصورة أيضا. سهَّل هذا الواقع الجديد سهل دخول الملحنين عالم الأعمال الغنائية الكبيرة ، التي ساهم فيها فريد الأطرش مساهمة كبيرة ( حبيب العمر 1946 و لحن الخلود 1952 مثلاً..) ، ومحمد عبد الوهاب ( ليالي عاشق الروح عام 1949).

تغيير مواقع التصوير

كانت الصورة قد تعاملت مع الغناء في الأفلام الأولى ضمن إطار واحد: اختيار الموقع الملائم لمضمون الأغنية ، مع إيلاء الاهتمام للتعبير عن ذلك المضمون عبر رموز بسيطة كما سبق وأسلفنا ..ثم ، وبسبب طول الأغنية ،أو سرعتها ، أو تنوع أجوائها اللحنية ، كان لابد من اللجوء إلى تغيير المواقع عبر حالات عديدة:

  1.  وجود مستمعين يتابعون الأغنية من موقع آخر مجاور(نشيد الأمل، انتصار    الشباب /أحمد بدرخان ).
  2. بسبب نص الأغنية (استعراض بساط الريح / فريد الأطرش).
  3. عبر تصوير المغني ضمن سيارة تتجول (أمرك ياسيدي/عبد الحليم حافظ،الأوتومبيل/نور الهدى…)،أو على طريق العودة إلى البيت(أحبك/عبد الحليم حافظ..)
  4. تغيير المواقع لأن الأغنية تتطلب جوّين لحنيين مختلفين(راجح في بياع الخواتم/ فيروز ونصري شمس الدين..)،أو لأنها حوارية على الهاتف بين متحدثين..
  5. نقل الزوايا بسرعة بسبب سرعة الإيقاع وطول الأغنية/استعراض دقوا   الشماسي/عبد الحليم حافظ)..
  6. الاستفادة من الراديو لتنويع مشاهد الاستماع ، لتتنقل بين مواقع متداولة للاستماع إلى الإذاعة : البيت ، السيارة ، المقهى .

ولادة شرعية وحال من الإبداع لم يستمر!

وهكذا يتبين أن الأغنية السينمائية ولدت ولادة شرعية في عالم الغناء العربي، لأن التفاعل بين الأغنية والصورة السينمائية كان غنياً ومقنعاً ، وخاصة من المراحل الأولى، ولكن الفيلم الغنائي شهد ، كما المسرح الغنائي ، انحساراً واضحاً بعد غياب كبار من عملوا فيه، ما تسبب في تحول السينما، كما المسرح، عن الغناء، و بروز ظاهرة الممثل المغني في الحالتين ( السينما والمسرح الغنائي ) ، وكأنما كان الغناء وسيلة السينما والمسرح للانتشار في العالم العربي في البداية ، ثم عندما تحقق لهما الموضع الثابت في أذهان الجمهور، انحسر اهتمام السينمائيين والمسرحيين بالغناء، لصالح توجهات أخرى.

التلفزيون والفيديو كليب

دفع هذا الواقع المغنين للاهتمام بالتلفزيون ، تلك الأداة الجديدة ، التي قدمت الأغنية أولاً كما تقدم عادة ، على المسرح أو في استوديو التسجيل ، ثم أضافت إليها عنصر الحركة والرقص لإغناء المشهد التلفزيوني  ،على حساب عاطفية اللحن وتعبيريته ، مما أثر في إيقاع اللحن وتسريعه ، وجاء  الفيديو كليب أخيراً فأفقد الأغنية العربية وجدانيتها  تماماً ، وحوّلها ،في غالب الأحيان ،عبر قصاصات المشاهد المتتالية بسرعة أمام أعيننا ، في إيقاع بصري مدمر للأعصاب ، فرض على الأغنية التسارع ذاته ، إلى نسخة مشوهة عن أغاني المنوعات في الغرب، دون الانتباه إلى أن الأغنية التلفزيونية العربية ، يمكن أن تجد لها مكاناً فعالاً في عالم الغناء العربي ، إن تحولت إلى أغنية مستقلة ، تحمل عبر خلاياها الداخلية ، الحدث والعقدة والحل ، والتعبير اللحني والصوتي عن تلك العناصر  ، فتكون بهذا نقطة الذروة في تطور الأغنية السينمائية ، التي لم تكن أبداً قادرة على تحقيق ذلك الاستقلال ، بسبب وجودها أصلاً في سياق فيلم ، بدلاً من أن تتحول تلك الأغنية التفزيونية إلى الواقع المؤسف الذي تعيشه اليوم.!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.