الطفل هو  جمهور المستقبل ونجاحنا في تعميق تذوقه لموسيقانا فيه ضمان لاستدامتها!

شعار كتاب الأغاني الثاني

التوجيه للموسيقى يبدأ في سن الطفولة

يتعلق مستقبل الموسيقى العربية بالأسلوب الذي سيتبعه شباب المستقبل في التعامل معها اهتماماً ومتابعة ومحبة واحتراماً!

في المقال التالي ،  أتوقف عند أطفال اليوم ، شباب الغد ، وأنظر في علاقتهم بموسيقانا العربية.

 

بادئ ذي بدء ، هناك عناصر إبداعية في الغناء ، وهي عموماً المبدع والنص واللحن والأداء ،  وهناك عناصر مؤثرة في الإبداع ، كالإنتاج والتعليم والنقد والتحليل والجمهور..

فيما سيأتي سنبحث في تطور العلاقة بين عنصر إبداعي وهو اللحن (أي باستثناء النص والأداء)  ، وعنصر مؤثر في الإبداع وهو الجمهور. وقد تم اختيار اللحن لأنه هو الذي يبقى مؤثراً في الطفل ، عندما ينتقل إلى مرحلة الشباب والرجولة ، بينما تستبدل العناصر الأخرى بمضامين جديدة وأساليب أداء جديدة، مما يستدعي النظر فيه ليس من حيث تعبيره عن المضمون ، ولكن من حيث استمرار تأثيره في الذوق طول العمر ! تم اختيار الجمهور لأنه العنصر الأهم بين العناصر المؤثرة في الإبداع ، لأنه يحقق السوق الغنائية ، منطلقين من فكرة أساس: الطفل هو  جمهور المستقبل  ، ونجاحنا في تعميق تذوقه لموسيقانا فيه ضمان لاستدامتها!

أولاً: الأغنية التي يستمع إليها الطفل

لو عدنا إلى بدايات القرن ،  لوجدنا أن الأسرة كانت هي البيئة التي تبني ذوق الطفل ، وكان ذوق الوالدين هو المسيطر ، وحتى أغنية الطفل كانت تتجه إلى الذوق العام المرتبط بالفولكلور ، من حيث الجملة اللحنية والمقام الموسيقي. القطيعة بدأت بين أذواق الأجيال ، عندما جاءت فترة منتصف القرن العشرين ، حيث توازى ، عند جيل الشباب ، في آن واحد ، أغاني الكبار من المغنين العرب ، مع أغان غربية ، شاعت بتأثير الإذاعات الغربية ، التي بدأ إرسالها يصل إلينا ، وكذلك السينما والأسطوانات .
ترافق بتأثير الأغاني المدرسية للطفل ، التي ألفها ولحنها دارسون للموسيقا ، تلقوا علومهم في الغرب عموماً ، فصاغوها بلغة عربية وبلغة موسيقية غربية ، فساهمت ، إلى جانب دور وسائل الإتصال في ما حصل ، لتأتي مرحلة السبعينات ، حيث حلت الأغنية العربية المقلدة للأغنية الغربية مكان الأغنية الغربية عند الشباب ، نظراً لضعف شبابنا في اللغة ، ولتوفر هذه الوجبة الجديدة ، فيما تعمق الاتجاه السائد ، في أن تكون أغنية الطفل هي الأغنية السائدة في التلفزيونات والفيديو كليب ، من جهة ، أو الأغاني التي ترد في المسلسلات المدبلجة المخصصة للأطفال ، والتي غالباً مايحافظ فيها على اللحن الغربي الأصلي ، وتوضع لها كلمات عربية ، تؤديها أصوات لاعلاقة لها بالغناء العربي عموماً ، يختارها المنتج حسب ذوقه ، ويتعلم أطفالنا تلك الأغاني فتشكل ذوقه جمهور المستقبل.

ثانياً: الأغنية التي يغنيها الطفل

لنميز بين أغنية يغنيها الطفل وأغنية يستمع إليها الطفل ، و لنميز بين طفل صغير في الثالثة ، وطفل كبير في العاشرة ، والتطور هنا بين الحالتين كبير قلما انتبهنا إليه .

كثيراً مايختلف الباحثون في موضوع أغنية الطفل، فمنهم من يدعو لكي يتعلم الطفل أن يغني غناء الكبار ، وبخاصة كبار الفن ، كأم كلثوم وعبد الوهاب ، من جهة ، أو الموشحات والأدوار من جهة أخرى ، ومنهم من يدعو لكي يغني الطفل أغنيته الخاصة، التي يفترض بها أن تستجيب لرغبات وحاجات الطفل أساساً.

لو كانت هناك جسور واضحة بين الدعوتين لما كنت هناك مشكلة ، ولكن المشكلة تكمن في قطيعة كاملة بين الأغنية التراثية أو المعاصرة الأصيلة  ، وبخاصة في الجانب الموسيقي منها ، وأحياناً في النص،  وبين الشكل المطروح للأغنية الخاصة بالطفل. ولما كان الطفل هو جمهور المستقبل ، والجمهور كما نعلم هو من أهم العناصر المؤثرة في الإبداع ، كونه يحدد بذوقه توجهات سوق الغناء ، فإن المشكلة تتفاقم يوماً بعد يوم.

أعتقد أن الحل يكمن في أن ننظر إلى أغنية الطفل ، ليس على أنها فقط أغنية بسيطة في شكلها الموسيقي ، تقترب من الشكل الغربي لأغنية الطفل ، معتمدة على مقامين موسيقيين هما الماجور والمينور ، في انتقالات لحنية شبيهة بما نجده في التدريبات الصولفائية المتداولة في كتب الصولفيج الشهيرة ، تحت حجة أن هذا هو الأسلوب الأمثل لتعويد الطفل على الغناء السليم ، لأن النتيجة ستكون أن تحسسه للأنغام الشرقية سيخف مع مرور الوقت. و حتى لو أنها اعتمدت الشكل الموصوف ، مع إدماج المقامات الشرقية كأبعاد صوتية ، فإنها لن تحقق لسير اللحن أي علاقة بالمقام المختار ، من حيث أسلوبية المقام ، أو إبراز شخصيته. أعتقد أننا ، على الأقل من حيث الشكل الموسيقي ، علينا أن نوجه الطفل إلى أغنية ، تقع موسيقياً في مرحلة وسيطة ، بين الأغنية الأصيلة ، والأغنية السائدة اليوم عنده ذات اللحن البسيط.

الوضع خطير!

في عملية إحصائية علمية قام بها باحث سوري ( الأستاذ جميل دنان) ، تبين تغير ذوق الأطفال بين سن التاسعة والحادية عشر في تقبل المقامات الشرقية ، إذ قام بإسماع الاطفال أغانٍ على مقامات شرقية تحتوي على أرباع الأصوات ، كالراست البيات والهزام ، وأغانٍ أخرى تعتمد على مقامات لا تتضمن أرباع الأصوات كالعجم والنهاوند والكرد ، وفيما اختار أطفال التاسعة من العمر الأغاني التي بنيت على المقامات الشرقية ، اختار أطفال الحادية عشرة ( أي بفارق سنتين فقط من العمر ) الأغاني على المقامات التي لا تتضمن أرباع الأصوات ، وأعتقد أن هذا دليل على عمق المأساة التي تتفاقم ، والتي ستصل بنا إلى أن الموسيقا العربية التي سادت لفترة طويلة ، ستفقد جمهورها في المستقبل القريب، إن لم نحسن التعامل مع أطفالنا!

د. سعد الله آغا القلعة

 

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading