دور قد ما حبَّك زعلان منَّك بصوت صالح عبد الحي: سجّل مرحلة انتقالية في تشكيل قالب الدور، ووثَّق لبدايات التعبير اللحني ، في نهايات القرن التاسع عشر ،عند محمد عثمان ، وانتظر التعبير الصوتي عن اللحن لمائة عام! 

شعار كتاب الأغاني الثاني

أسلط الضوء في نشرتين متتاليتين ، على دور ” قد ما حبك زعلان منك ” ، من ألحان محمد عثمان ، الذي أرى أنه سجَّل مرحلة انتقالية ، سبقت استقرار عنصري الآهات والهنك في قالب الدور ، وأنه من أوائل النماذج اللحنية ، التي حملت البذور الخفية ، للتعبير اللحني عن المعاني ، في أعمال نهايات القرن التاسع عشر ، تلك البذور التي لم تُظهرها بوضوح ، أساليب الغناء السائدة في ذلك الوقت ، والتي سنرى ، في النشرة التالية ، أن أساليب الأداء الجديدة ، كشفتها!!

إرهاصات التعبير اللحني سبقت التعبير في الأداء
شهدت نهايات القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين ، إرهاصات النهضة الموسيقية ، التي انطلقت فعلاً بعيد الحرب العالمية الأولى. لم يكن التطور دائماً متوازياً في جميع المسارات ، ففيما شهدت ألحان نهايات القرن التاسع عشر تطوراً ملحوظاً في صيغ التلحين ، و تنويع المقامات والإيقاعات الموسيقية ، وارتفاع سوية النص ، فإننا نجد أن التعبير عن المعاني لم يظهر بوضوح ، إلا بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى ، ومع ذلك ، فقد كانت هناك إرهاصات في أعمال الملحنين السابقين لتلك الفترة ، بقيت خفية ، إلى أن جاءت فرصتها لاحقاً لتظهر..
نعم ، إذا كنا نعتبر أن سيد درويش ، كان المبادر إلى إطلاق مسارات التعبير اللحني في الغناء العربي ، وإلى محاولة إضفاء التعبير على الأداء الصوتي ، خاصة في الأغاني التي كانت تقدم في مسرحه ، فإننا نستطيع تأكيد وجود إرهاصات واضحة للتعبير اللحني عند من سبقوه ، و خارج إطار المسرح الغنائي ، رغم أن الأداء الصوتي حينها ، لم يواكب ذلك التطور ، وبقي منفذاً للمعايير القديمة السائدة ، ما أخفى مكامن التعبير في اللحن ، وحرمه بالتالي من الظهور بصورته الكاملة ، بانتظار ظروف أفضل ، إذ لا يتكامل التعبير عن المعاني في الأغنية ، إلا إن تواكب التعبير اللحني مع التعبير في الأداء الصوتي.
نعم.. قد يضع الملحن لحنه المعبر عن مضمون النص ، ويأتي الأداء محايداً ، أو تغلب عليه السمات العامة للغناء في فترة الأداء ، ما يوهن صورة الأغنية ، وقد يستطيع الملحن أن ينقل رؤيته للمغني ، فيعبر بشكل صحيح عن المعاني، فتستقيم صورة الأغنية ، وقد لا يرضى الملحن عن التعبير الذي جسده المطرب بصوته ، فيحاول الملحن أن يسجل اللحن بصوته ، فيما قد يتمكن المغني من إضافة أبعاد تعبيرية ، وهذه هي الحالة المثلى.

دور قد ما حبَّك زعلان منك
من أوائل الأمثلة على بروز بذور التعبير في اللحن، التي سبقت الأداء الصوتي ، دور قد ما حبك زعلان منك ، من كلمات محمد الشاويش ، وقيل اسماعيل صبري ، وألحان الملحن الكبير محمد عثمان، الذي عاش بين عامي 1855 و 1900 في القاهرة ، واعتُبر مع عبده الحمولي ، ذي الصوت الساحر ، كما وصفه أمير الكمان سامي الشوا ، أهم ملحنَين في مصر ، في نهاية القرن التاسع عشر في مصر، دون أن نعدَّ طبعاً ، الشيخ أحمد أبو خليل القباني ، المقيم في القاهرة آنذاك ، السوري الأصل والخبرة.
جاءت الأغنية على قالب الدور، وهو قالب غنائي في الموسيقى العربية، ظهر بصورته البدائية في مصر ، منتصف القرن التاسع عشر، كتطور منطقي للموشحات الأندلسية، التي انتقلت إلى مصر من سورية، في صورتها المتطورة ، والمتضمنة لتغيرات تلحينية وإيقاعية متسلسلة، حيث تابع الدور ذلك التطور في مصر ، على يد محمد عثمان وعبده الحمولي ، حتى أصبح أهم قالب غنائي عربي في مطلع القرن العشرين ، خاصة عندما اعتمد على عنصرين هامين : الآهات ، و الهنك ، الذي يتشكل من تكرار الكورس لجملة من النص ، على لحن محدد ، ثم ينفرد المطرب بارتجالات على الجملة ذاتها ، تتناوب مع جملة الكورس ، و تدل على قدرات صوت المطرب ، و إمكانياته في التلوينات المقامية.
أعتقد أن دور قد ما حبَّك زعلان منك ، جاء قبل أن تستقر الصيغة النهائية لهذا القالب ، إذ أننا نلحظ من تتبع التسجيل المرفق ، بصوت صالح عبد الحي ، الظهور العابر للآهات ، التي أصبحت لاحقاً عنصراً أساسياً في الدور ، كما نلاحظ أن عنصر الهنك أيضاً ، لم يكن قد استقر بوضوح.
بُني اللحن على مقام الصبا ، وهو مقام موسيقي شرقي ، تميز بالتعبير عن المضامين الحزينة عموماً ، وقد ابتعد عنه الملحنون ، لأنه ، كما شاع ، على غير حق ، مقام ضيق لا يفتح آفاقاً متنوعة، ولكن بعض الملحنين، استطاع إكسابه أجواء احتفالية و حتى كوميدية، كما رأينا في نشرات سابقة ، ما يدل على أن الأساس يبقى الملحن ، وأسلوب صياغته للألحان ، دون أن ننفي الصفة الحزينة العامة للمقام.
تعددت تسجيلات هذا الدور ، إذ تم توثيقه أولاً من قبل الشيخ يوسف المنيلاوي، ومحمد السبع ، وعبد الحي حلمي ، على أسطوانات جرامافون ، ومن صالح عبد الحي ، على أسطوانات بوليفون وبيضافون، ومن سليمان أبو داود على أسطوانات أوديون ، كما سجله آخرون ومنهم آمال حسين في مصر أيضاً ، وعبد الرحمن عطية في سورية.

تضادٌ في المعاني
حفل النص بتضاد المعاني، إذ ترد مفردات الحب و ( الزعل ) – الدعوة ( تعال ) ، والطرد ( خلينا منك ، أي فلننته من هذا الأمر ) – جرح اللحظ ، والهجر ، كما جاءت القافية برويٍ معبر عن مآل الموضوع وهو الفراق ، إذ كان الروي كافاً ساكنة ، وكل سكون يعبر عن نهاية أو ختام!
تقول الكلمات:
قد ما أحبك زعلان منك
وليه ترضى بعدي أنا عنك
***
اسمح بقى .. وتعال أنا أُخلف ظنك
إن ما كان ده يكون خلينا منك
***
جرحني لحظك وهجرني قلبك
ما كانش عشمي الله يسامحك
اسمح بقى .. وتعال أما أقول لك
إن ما كان ده يكون خلينا منك

بعد دولاب على مقام الصبا ، يبدأ القانون بتقاسيم وفق المتداول في التمهيد للغناء ، و نستطيع بسهولة التوقع بأن التقاسيم للعازف المبدع عبده صالح ، كما نستطيع بسهولة أيضاً ، تتبع الأسلوب التقليدي في التغني بكلمة ياليل ، وملاحقة القانون للمطرب فيما يرتجله ، ثم إعادة ما قام به ، فيما يسمى الترجمة.
توحي الأغنية في النظرة الأولى بأن لا أهمية للنص ، لأننا نلاحظ ، مع استبعاد القسم المتكرر منه ، أن عدد كلمات النص لا يزيد عن 28 كلمة ، فيما استغرق تسجيل الدور ، بعد استبعاد الدولاب والتقاسيم والليالي ، حوالي 10 دقائق! وهذا من حيث المبدأ يمثل ذروة التقليل من شأن النص ( إن لم يكن الاستهانة به) ،الذي يكتفي بدور الحامل للَّحن والصوت. قد يكون هذا صحيحاً ، وفق الأعراف السائدة في نهايات القرن التاسع عشر ، ولكنه لم يكن صحيحاً وفق توجه الملحن محمد عثمان ، على الأقل لدى مقاربته لهذا النص ، إذ جاء اللحن حاملاً لبذور التعبير عن المعاني:
أولاً : مقامياً ، في اختيار مقام الصبا ، لأن فحوى النص تدور حول الهجر والفراق ، مع توظيف مسار المقام ، الذي يسمح بتطوير مقامات أخرى ، كمقام العجم ، بغية تطوير اللحن ، وهو مقام معروف بتعبيره الأصدق عن مشاعر القوة والعزة ، ومقام النهوند ، الأصدق في التعبير عن العواطف ، عندما تبدو ملامح إمكانية عودة المحبين ، مع توفير الإمكانية للمطرب ليكرر الجمل ذاتها من النص ، مع تنويع المقامات ، في وظيفة ظاهرية وهي التطريب ، وخفية وهي التعبير ، فالمفردات ذاتها حمّالة أوجه ، كما سنتابع في النشرة التالية ، إذ أنها قد تعبر عن الاستسلام ، أو الاستنكار ، حسب التعبير الصوتي الذي يحملها!
وثانياً : تلحينياً ، في أسلوب تلحين الجمل في النص ، وأسلوب إنهاء الجمل اللحنية.
ولكن هذه البذور بقيت خفية ، لأن الأداء الصوتي في التسجيلات الصوتية ، التي تعود للثلث الأول من القرن العشرين، أتى محايداً ، يغلب عليه التطريب ، أو التعبير الخجول ، في إطار ما يضفيه مقام الصبا على اللحن من أجواء حزينة.
سأكشف في نشرة تالية ، كيف يمكن تلوين المعاني ، لإبراز الأوجه المختلفة التي يحملها النص ، من خلال تلوين أطياف التعبير الصوتي ، مع تثبيت الكلمات واللحن!!.


د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.