حوارية آن الأوان في تسجيل سمعي بصري نادر تكشف جانباً إبداعياً خفياً عند سيد درويش وتخالف الإجماع السائد!

شعار كتاب الأغاني الثاني

كنت ذكرت ، في نشرتي عن مونولوج قضيت حياتي ، أن إرهاصات التعبير عن المضامين في الموسيقى العربية ، أتت في أعمال سيد درويش ، الغنائية عموماً والمسرحية خصوصاً ، ابتداءاً من بداية العشرينات من القرن الماضي ، وأن محمد القصبجي ، المعاصر لسيد درويش ، هو الذي سعى لتأسيس تيار آخر ، وهو التيار الموسيقي في الغناء ، الذي سعى لتقليص دور الكلمة ، أصلاً ، لتكتفي بدور الحامل للصوت والموسيقى ، فيما سُمي المدرسة الرومنسية ، التي جسدها قالب غنائي محدد : المونولوج الرومنسي.
وتابعتُ في تلك النشرة ، فشرحتُ عناصر المدرسة الرومنسية ، من خلال مونولوج قضيت حياتي لأم كلثوم ، من ألحان رياض السنباطي ، ونظم أحمد رامي ، لتبيان رؤية السنباطي لعناصر المدرسة الرومنسية في الغناء العربي ، التي أرسى دعائمها محمد القصبجي ، منذ منتصف العشرينات من القرن الماضي. بينتُ في تلك النشرة أن مكونات المدرسة الرومنسية ، سعت للتعبير عن المزاج الرومنسي ، المتسم بعنف المزاج، وتقلبه، والحس المرهف، والإحساس بالظلم وقسوة القدر، والإعجاب بالذات، وتأليهها، وتقديس الجمال، ومناجاة الطبيعة، والتغني بجمالها. بينتُ أيضاً أن التجسيد الموسيقي لتلك المكونات جاء ، وفق رؤية محمد القصبجي ، من خلال التعبير عن تقلب المزاج بالتغير الإيقاعي الدائم ، حيث أسهم رامي في ذلك ، من خلال صياغة متغيرة الأوزان والقوافي ، كما تم الإعتماد على صوت أم كلثوم الرائع أولاً، ثم أسمهان لاحقاً، لإعطاء المدود الصوتية ، التي تحقق تعميق تقديس بالجمال. اعتمد القصبجي أيضاُ ، على البدء بمقدمات موسيقية معبرة، و إعطاء دور هام للفرقة الموسيقية في أداء اللوازم الموسيقية ، والتقاطع مع الغناء، لإغناء فكرة تضاد العواطف، مما ساهم بشكل أساسي في تطوير الفرقة الموسيقية العربية ، كما اعتمد الختام المعلق كعنصر دائم في المونولوج الرومنسي.
ولكن متى ظهرت الإرهاصات الأولى للمدرسة الرومنسية ؟
تجمع أدبيات الموسيقى العربية ، على أن مونولوج « والله تستاهل يا قلبي »، لسيد درويش ، في مسرحيته « راحت عليك »، شهد ولادة العناصر الرومنسية في الغناء العربي ، التي تم تأسيسها لاحقاً من قبل القصبجي في قالب محدد هو ، كما أسلفتُ : المونولوج الرومنسي.
المشكلة في أن الإجماع كثيراً ما يبنى على مقولة أولى ، يعتمدها الآخرون لاحقاً ، دون تمحيص ، فتحقق الإجماع.
في نشرة اليوم أخالف تماماً هذا الإجماع ، وإليكم السبب:
عرضت مسرحية ” راحت عليك ” لسيد درويش في 9 يونيو / حزيران عام 1920 ، وتضمنت مونولوج ” والله تستاهل يا قلبي ” الذي عُدَّ الحامل للإرهاصات الأولى للعناصر الرومنسية في الغناء العربي ، فيما أرى أن الإرهاصات الأولى أتت قبل ذلك بأشهر ، في عمل آخر لسيد درويش وفي مسرحية أخرى وهي مسرحية ” العشرة الطيبة ” التي عُرضت في 11 مارس / آذار 1920 ، وذلك في اللحن السادس في المسرحية : حوارية ” آن الأوان ” ، التي أنشر لها اليوم ، هذا التسجيل السمعي البصري ، لأول مرة على شبكة الانترنت ، حيث يمكن بسهولة التأكد من توفر عناصر المدرسة الرومنسية ، من امتدادات صوتية تعمق تقديس الجمال ، ومن تغيرات إيقاعية ، عبر إدماج الغناء الجماعي الموقَّع من المجموعة ، بشكل يناقض تلك الامتدادات المرسلة ، وكذلك وجود مقدمة موسيقية خاصة ، إضافة إلى الختامات المعلقة للغناء . إنها العناصر الرومنسية ذاتها التي أتت لاحقاً في مونولوج ” والله تستاهل ” ولكن حوارية ” آن الأوان ” كانت أسبق!
النص لبديع خيري
الجميع : آن الأوان ياحلوة آن * والسعد كان مستني يومك من زمان
سيف الدين : اتمخطري واتغندري واتجعصي ف التختروان
الجميع: آن الأوان ياحلوة آن * والسعد كان مستني يومك من زمان
سيف الدين : يانور العيون خايف يكون حاتسيبيني يازينة البنات
نزهة: بكرة تشوف جنيهات ألوف وادندشك بالنشانات
سيف الدين : مهما أسوح ولا أنوح دانا أروح وراكي كردفان
اتمخطري واتغندري وانجعصي ف التختروان
الجميع : آن الأوان ياحلوة آن * والسعد كان مستني يومك من زمان

اللحن لسيد درويش
يجسد هذا اللحن أولاً إبداع سيد درويش في التعامل المقامي مع ألحانه ، وفيما سال حبر كثير حول توظيف سيد درويش لمقامات موسيقية نادرة الاستعمال في ألحانه ، فقد ندُر أن توقف أحد عند قيامه بعملية أعقد ، وهي بناء اللحن على أجناس موسيقية مختلفة ، في تركيبة ذوقية خالصة ، تلائم أوجه النص المختلفة!
بنى سيد درويش لحنه لحوارية ” آن الأوان ” على ثلاثة أجناس موسيقية : العجم والنهاوند والصبا ، مع المرور على مقام الحجاز كار ، للتعبير عن تضاد العواطف في سياق المسرحية ، إذ أن نزهة ، التي ألقيت في الماء من قبل والدها الوالي ، لأنها بنت ، فعاشت مع الفلاحين ، وأحبت سيف الدين وأحبها ، ستعود إلى قصر أبيها ، وقد أتى حراسه لأخذها ، فيحس سيف الدين بأنه سيفقدها ، وتحس هي بأنها ستستقدمه إليها لاحقاً ، و فيما هذا اليوم سعيدٌ بالنسبة لها ، فقد سبب له الكثير من الحزن!
بعد مقدمة موسيقية سريعة من أجواء اللحن ، بنيت على تركيب من جنسي النهاوند والصبا ، تبدأ المجموعة بالغناء على جنس النهاوند مبدئياً ، لنجد أن اللحن يمر على جنس الصبا ذي الطابع الحزين عند : كان مستني يومك ، ليعود بتصاعد إلى جنس النهاوند ، وهذا إبداع حقيقي من سيد درويش في إبراز البعد المؤلم لهذا اليوم بالنسبة لسيف الدين ، في سياق المسرحية . يمر اللحن بعد ذلك على أربعة مشاهد لسيف الدين ( يؤدي الدور غناءاً كارم محمود ) فيأتي المشهد الأول أولاً بآهات على جنس النهاوند الرومنسي ثم يتم الانتقال إلى جنس العجم عند : اتمخطري واتغندري واتجعصي ف التختروان ، والانتقال يأتي للتعبير عن أجواء نزهة الجديدة وهي تنتقل من حياة الفلاحين إلى حياة القصور، في امتدادات صوتية وغناء مرسل رومنسي  ، فيما يأتي المشهد الثاني عند  : يانور العيون خايف يكون حاتسيبيني يازينة البنات ، على جنس النهاوند الرومنسي مع ختام على الصبا للتعبير عن خوفه من فقدانها ، وألمه لهذا الاحتمال ، قبل تسليم نزهة الغناء ، على ملامح من مقام الحجاز كار ، ليعود في مشهده الثالث إلى النهاوند عند : مهما أسوح ولا أنوح  دانا أروح وراكي كردفان ، بعد أن كان في مشهده السابق قد ركز على جنس الصبا الحزين ، في اختلاط بين الحزن والأمل ، الذي يعبر عنه هنا على جنس النهاوند ، في جملة لحنية متصاعدة ، ويختتم مشهده الرابع المقابل للمشهد الأول ، على جنس العجم أيضاً عند: اتمخطري واتغندري وانجعصي ف التختروان ، وهو يودعها معبراً عن أجواء نزهة الجديدة وهي تنتقل من حياة الفلاحين إلى حياة القصور،ونلاحظ توفر الختامات المعلقة للمشاهد الأربعة!
أما لحن المجموعة فقد أتى دائماً مصحوباً بالإيقاع ، محققاً التغيرات الإيقاعية ، في تضاده مع الغناء المرسل ، وعلى جنس النهاوند ، مع المرور على جنس الصبا عند : مستني يومك ، أما المشهد الذي تؤديه نزهة ( المطربة أحلام ) عند : بكرة تشوف جنيهات ألوف وادندشك بالنشانات ، فيأتي على مقام الحجاز كار ، ولكن مع توقفات تحسرية ، تعبر عن خشية ما من عدم تحقق آمالها ، مع ختام معلق.
نعم لقد حملت هذه الحوارية الإرهاصات الأولى للعناصر الرومنسية في الغناء العربي ، وخاصة في الامتدادات الصوتية والختامات المعلقة ، وكان لابد من تثبيت ذلك ، رغم الإجماع السائدّ ، في أسبقية ” والله تستاهل يا قلبي ” ، وما أكثر تلك الإجماعات السائدة ، التي تخالف الواقع!
مر في سياق هذه النشرة اعتماد سيد درويش على مقام الصبا للتعبير عن الحزن ، فلماذا عُرف مقام الصبا بتعبيره عن الحزن ، وهل هو مقامٌ حمّالٌ لأوجه؟ هذا ما سأتوقف عنده في النشرات التالية ، مبتدئاً بتأملات حزينة على مقام الصبا ، أقدمها على آلة القانون!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.