2- الأغنية الفائزة في تصويت الحدث المغاربي جريت وجاريت : جسَّدت ، في درجة قبولها العالية من قبل المجتمع ، تتويجاً لتحولٍ مجتمعي هام في المغرب ، وعبَّرت بوضوح ، عن تعاطفه مع دورٍ مستجدٍ للغناء ، أصبح ممكناً له ، في الوجدان الجمعي ، أن يعبر عن إحباط النساء ، أمام ظلم الحياة الذي دام طويلاً!

شعار كتاب الأغاني الثاني

يمكن اعتبار أغنية جريت وجاريت ، نموذجاً معبراً عن التطور الذي حدث في مسيرة الغناء في المغرب ، ابتداءاً من أوائل ستينات القرن الماضي ، بعد أن أعطى العهد الجديد فيها آنذاك للموسيقى ، دورها الهام ، في تنمية ذوق المجتمع ، والتعبير عن طموحاته المستجدة ، ووفر الأدوات الإعلامية اللازمة ، لإطلاق موجة تطوير موسيقي هامة ، سمحت بتوليد موجة جديدة من الأغاني المغربية ، استطاعت تشكيل ذائقة خاصة بها ، إلى جانب التراث الموسيقي الأندلسي ، الذي ورثه المغرب ، والمتمثل في موسيقى الآلة.
تبرز هذه الصورة بوضوح ، عندما نتتبع مسيرة صنّاع أغنية جريت وجاريت: المسرحي الذي أصبح زجالاً : علي الحداني، و الممرض الذي أصبح ملحناً : عبد القادر وهبي ، والمطربة نعيمة سميح ، التي بدأت حياتها في عالم التجميل ، ثم أصبحت مطربة ، دون أن تدرس الموسيقى ، و لكنها بالمقابل استطاعت فرض نفسها ، إلى جانب أصوات الرجال ، التي كانت مسيطرة على الساحة ، رغم رفض أسرتها و المجتمع لذلك ، في البداية ، لتصبح مع الوقت عميدة الأغنية المغربية ، إذ لولا توفر هذا الجو الجديد ، لبقي الحداني مسرحياً ، ووهبي ممرضاً ، ونعيمة سميح صاحبة مركز للتجميل!
طبعاً ، أنا في هذا لا أنفي الطموح ، والإرادة ، والسعي ، لدى كل منهم ، لتظهير موهبته الفنية الشخصية ، ولكن هذا لا يكفي ، إن لم يتوفر جو عام ملائم ، يسمح بتظهير المواهب ، وخاصة في مجال الموسيقى ، لتتلاقى وتتفاعل وتتنافس فيما بينها ، و لتشكل صورةً جديدة للأغنية المغربية.
بعد هذه المقدمة ، التي وضعت صناع الأغنية ، التي فازت بتصويت متابعي الصفحة : جريت وجاريت ، في سياق وجودهم المجتمعي ، لابد من البدء بالتعريف بهم أمام متابعي الصفحة ، ممن لم يعاصروا الفن المغاربي عموماً :

كاتب النص الشاعر علي الحداني
وُلد في مدينة فاس عام 1936 ، وتوفي عام 2007 ، بعد مرض عضال. عمل في مجال الكتابة المسرحية أولاً ، في الدار البيضاء ، لينتقل بعدها إلى الرباط ، حيث وجد أجواء الفن والموسيقى متفتحة أمام عالم جديد ، تحاول أن تصف فيه الحالة الانتقالية التي يعيشها المجتمع ، فدخل في تجربة كتابة الزجل ، و لخص من خلال نصوصه الشعرية ، تجربته الإنسانية ، و هموم مجتمعه المغربي في تحولاته ، بسلاسة مميزة ، مستفيداً من تجربته المسرحية ، في إدماج العناصر الدرامية في نصوصه المبتكرة ، ما مكنه من التأثير بوضوح لافت ، في وجدان المغاربة.
تغنى بكلماته كبار الفنانين في المغرب أمثال عبد الهادي بلخياط ونعيمة سميح وماجدة عبد الوهاب ومحمد الحياني ، ولما كانت أغنية جريت وجاريت، هي الأبرز في مسيرته ، فقد صدر ديوانه الشعري تحت اسم ” ياك اجرحي ” ، وهي افتتاحية تلك الأغنية التي نحن بصددها.

الملحن عبد القادر وهبي

الملحن عبد القادر وهبي

تزامنت بداية عبد القادر وهبي ، في بداية الستينات ، مع بداية علي الحداني ، كما تماثلت في ابتدائها في عالم مختلف ، إذ بدأ حياته العملية ممرضاً في مشفى ابن سينا بالرباط ، واستمر في ذلك إلى جانب دخوله عالم التلحين ، بعد تخرجه من المعهد الموسيقي بالرباط . شهدت الستينات أيضاً ولادة صداقة جمعته مع علي الحداني والمطرب عبد الهادي بلخياط. كانت بدايته مع عالم الغناء ، ولما لم يقابله الجمهور بالإعجاب ، قرر الاتجاه نحو التلحين ، إلى جانب عمله كممرض ، وهي المهنة التي مارسها دون انقطاع ، إلى جانب اهتمامه بشكل متقطع بالتلحين.
جاء أول ألحانه بعنوان ” ندم ” ، وقد أداه صديقه المرحوم محمد الحياني ، ليكون أول الألحان التي غناها الحياني ، عبر أثير الإذاعة المغربية . لحن بعدها مجموعة من الأغاني لصديقه الفنان عبد الهادي بلخياط ، ولمطربين آخرين.

نعيمة سميح
ولدت نعيمة سميح في بداية خمسينات القرن العشرين ، في درب السلطان بالدار البيضاء . عشقت وأحبت تجويد القرآن الكريم ، وسكنها حب الغناء والطرب الأصيل. تحدت تقاليد مجتمعها المحافظ ، حين أصرت على دخول عالم الغناء ، الذي كان مقتصراً على الرجال فقط، واستطاعت ، في نهاية الستينات ، أن تنفِّذ ذلك ، بموهبتها وجمال صوتها الفطري ، دون تكوين علمي أو موسيقي مسبق ، معتمدة على حس موسيقي مميز وأذن موسيقية مرهفة.
ومثلما بدأ الحداني مسرحياً ، و وهبي ممرضاً ، فقد بدأت نعيمة حياتها العملية في ميدان التجميل ، وحصلت على عدة شهادات في هذا المجال ، لتفتتح صالونا لتصفيف الشعر بمدينة الدار البيضاء، لكن عشقها للغناء دفعها ، في نهاية الستينات ، للمشاركة في برنامج ، كانت بدأت تقدمه التلفزة المغربية ، في سياق التوجه العام لتنشيط الموسيقى والغناء في المجتمع ، اسمه «مواهب» ، وكان يعده ويقدمه الأستاذ الملحن عبدالنبي الجيراري. استطاعت نعيمة المشاركة ، بعد رفض والدها ذلك ، ثم قبوله ، بتدخل مباشر من معد البرنامج ، شريطة أن تلتزم بالغناء في المجالات الدينية والوطنية ، لكنها لم تسلم مع ذلك ، من انتقادات وهجوم عائلتها. تميز صوت نعيمة سميح ببحة متفردة ، مفعمة بالشوق والحنين والألم ، خاصة بعد أن لازمها المرض لمدة طويلة.

الأغنية جريت و جاريت
تثير أغنية جريت وجاريت ، لدى الاستماع إليها ، مشاعر فياضة وعميقة . كتبها الشاعر علي الحداني بسبب اصابة والدته بمرض لم تشف منه ، فوصَّف فيها حاله ، إذ يواجه ظلم الحياة ، المتمثل في مرض عزيز ، أو فقدان حبيب . ولكن الأغنية تحولت ، لدى أدائها بصوت نعيمة سميح ، لتكون الأغنية التي تعبر عن جراح النساء ، وما أكثرها ، في مجتمع تقليدي ، ولكن مجرد قبول المجتمع لهذا التعبير ، يبين أنه أصبح في طور التحول. أسهم ذيوع الأغنية ، في المجتمع النسائي المغربي أولاً ، ثم توحدها مع ناشرتها ، إذ تعرضت نعيمة فعلاً ، بعد تسجيلها الأغنية ، إلى عارض مرضي أقعدها طريحة الفراش في المشفى ، في أن تنتشر لاحقاً في المجتمع بكامله ، وتستقر في وجدانه ، عنواناً للتحول الكبير الذي حصل في المجتمع المغربي ، في تعاطفه مع المرأة حين يطبق عليها اليأس ، و يسيطر عليها الإحباط.
أود هنا أن أشير إلى مدى التماثل هنا ، في أوضاع المجتمعات العربية وتحولاتها ، إذ كانت فيروز قد غنّت ، في بداية الخمسينات ، أغنية “عتاب” ، التي كنت نشرت تحليلي لها على هذه الصفحة منذ مدة ، وبينتٌ حينها ، أن تلك الأغنية ، كانت قد نقلتْ ، وبشكل مماثل ، إحباط فتيات الخمسينات في لبنان ، أم محبوبٍ غير مبالٍ!
سمع عبد القادر وهبي نص الأغنية من صديقه الحداني ، حوالي العام 1975 ، ولما علم بأن النص متوفر لدى ملحنين آخرين ، سارع إلى تلحينها ، و تراءى له من البداية صوت نعيمة سميح ، العابق ببحة حزينة ، لتسجيلها ، وسرعان ما حفظت نعيمة الأغنية وسجلتها.

الكلمات: 
يمكن تجزئة النص إلى قسمين ، وفق ما وضعتُ أدناه ، وقد يكونا نُظما على مرحلتين ، الجزء الأول : يصف به الشاعر عاطفته الجياشة في حزنه على مرض والدته ، والثاني : يتحول الشاعر فيه إلى توصيف آلام مُحِبة تفتقد محبوبها ، اللاهي عنها ، وإلى تطوير النص ، بحيث يعبر عن إحياطاتها وانكساراتها ، كما سنرى لاحقاً!

الجزء الأول
ياك أ جرحي جريت وجاريت
حتى شي ما عزيت فيك
واسيت وعالجت وداويت وترجيت الله يشافيك
أجرحي ” واليوم اليوم تهديت ”
انا بالي بيه ولا بيك؟
أنا جريت وجاريت وعييت وتهدّيت .
********
الجزء الثاني
إلا فـ هذي حتى واحد ما ينوب يالحبيب عليك
حال ولا باغي تعرف زرني وتشوف بعينيك
حال ما يخطر لك في البال
ضعت أنا وباقي الخيال
حالفة الأيام الغزال
لا تعطي الطوع بلا بيك
حرشت علي الأشواق
مسلطات علي الحماق
قالت لي هذا الفراق
لا تنتظر شيء يرفق بيك
يا مسكينة
يا مسكينة
حبيبك وحده اللي دواك الشافي عنده
الي يأخدك للجنة بيدو
أو لجهنم يخليك
كل ذا كنت نصيب دواه
والصبر أنيا مولاتو
آه كل ذا كنت نصيب دواه
والصبر كان قلبي مولاه
فراقك واعر حرت معاه
ناره قياس الخير علي
على الله واش هذي الخطوة
” ديرها كرم ونخوة
فكني من هذ الدعوة
الي بالياني الله لا يبليك”
قالو لي غير المكان
جرب حاول تنسى ما كان
ارحل خليهم في أمان
اليوم لهم و غدا لك
كان جوابي بسكاتي
عرفوني واهبة لك حياتي
في الماضي والحاضر والآتي
وأنت تصرف ولا عليك .

اللحن
بنى عبد القادر وهبي لحن الأغنية الأساسي على مقام البيات ، على درجة الري ( مع تنزيل طبقة العزف بدرجة صوتية واحدة ) وقسمه إلى جزئين أيضاً ، وكانت الكلمة المفتاح لهذا الجزء : واليوم اتهديت ( من هدَّ ) ، وهكذا نجد أن الجزء الأول يسيطر عليه الاستسلام ، أمام واقعٍ مرضيٍ لا شفاء فيه ، و يبرز فيه ألم الشاعر المحبط أمام احتمال رحيل والدته ، وقد أعيته الحيلة.
بالمقابل ، خطط وهبي لحن الجزء الثاني ، بحيث يتطور ليعكس عواطف أخرى ، تحتلط فيها مشاعر الإحباط بالاستنكار ، ثم الرجاء المنكسر، الذي يشكل الجملة المفتاح لهذا القسم : ديرها كرم ونخوة فكني من هذ لدعوة الي بالياني الله لا يبليك ، حيث تتشكل ذرورة اللحن ، بعد بداية مستسلمة ، فتصاعد متنامٍ للَحن ، معبر عن تغير العواطف نحو الاستنكار ، حتى الوصول إلى تلك الذروة ، التي تعبر عن رجاء الوصول إلى حل ، قبل اختتام الأغنية ، في تخافض لحني واضح ، يعبر عن استسلامٍ ، أمام حبيبٍ غير مهتم.
يمكن هنا بسهولة ملاحظة فهم نعيمة سميح لهذا ، إذ جاء أداؤها في الجزء الأول ، معبراً بوضوح عن حزن دفين ، وخاصة عند الجملة المفتاح : واليوم اتهديت ، أي بعد أن هُدَّت قواها ، إذ سعت للعلاج ، و للمواساة وللدعاء بالشفاء ، دون نتيجة ، ليتغير الأداء لاحقاً كما سنرى بعد قليل.
اختار وهبي للحنه إيقاعاً رباعي النبضات 4/4 ، يمكن اعتباره تلويناً على إيقاع الكراتشي ، الذي يرد في بعض مواقع الأغنية ، و لكنه بالمقارنة الدقيقة ، يتطابق في تلوينات نبضاته ، و في أغلب مسارات الأغنية ، مع إيقاع ذوقي ، كان وضعه بليغ حمدي ، في مقدمة أغنية بعيد عنك ، للسيدة أم كلثوم عام 1965 .
ينتقل اللحن في بداية الجزء الثاني إلى مقام الصبا ، وذلك عند : إلا فـ هذي حتى واحد ما ينوب يالحبيب عليك ، حيث يبدأ النص بذكر الحبيب لأول مرة ، فيما لم يكن هناك أي مخاطبة لحبيبٍ في الجزء الأول . يسمح هذا بأن أعدَّ هذا البيت جسراً بين الجزأين الأول والثاني ، خاصة أن تأكيد النص هنا ، ألاّ بديل للحبيب ، يجعل الحالة ، في إيجاد بديل ، محتملة ، ولو أنها مرفوضة ، ما يخالف الجو العام للجزء الأول ، الذي كان موجهاً أساساً لحالة مرض عزيزٍ ، استعصى على الشفاء ، وهذا هو السبب الذي جعلني أرى ، أن هذا الجزء ، مستقل تماماً عن الجزء الأول.
نلاحظ أن البكائية والحزن في أداء نعيمة ، التي بدت مستمرة في هذا الجسر في بداية الجزء الثاني ، بدأت بالتحول مع نمو مشاعر الإحباط والاستنكار لتعبر عن تلك المشاعر المستجدة ، باقتدار واضح.
ينتقل اللحن إلى مقام البيات عند : حال ما يخطر لك في البال ضعت أنا وباقي الخيال ، لينتقل لاحقاً إلى مقام العراق ، مصوراً على درجة السي نصف بيمول ، في تمهيد متصاعد لذروة لحنية ، عند كلمة : الأشواق ، المعبرة ، وليبدأ الكورال بدور الناصح و المكرر للأفكار ، وخاصة بوجود ما يشي بوجود من يقوم بدور الناصح عند : قالت لي هذا الفراق ، و كذلك عند وجود من يدعوها بالمسكينة : يا مسكينة .
ينتقل اللحن لاحقاً إلى مقام الراست ، مع التمهيد ل : كل ذا كنت نصيب دواه ، حيث يشتعل اللحن ، عند المرور على كلمة النار ، و عند سيطرة مشاعر الاستنكار لمواقف المحبوب ، ورفض الفراق الصعب ، حتى وصولها إلى الجملة المفتاح للجزء الثاني ، في تمنيها عليه الكرم والنخوة ، لتخرج من الحالة التي ابتلت بها ، مع رفضها لنصائح تغيير حياتها ، والرحيل ، إذ وهبته حياتها!
يختتم اللحن بالعودة إلى الجزء الأول ، الذي تغير معناه هنا ، إذ أصبح معبراً عن كل مافعلته مع المحبوب ، دون أن تصل إلى نتيجة!
نعم ، لقد كانت نتيجة التصويت صائبة ، إذ كانت هذه الأغنية ، قد جسدت في درجة قبولها العالية من قبل المجتمع المغربي ، والمغاربي عموماً ، تتويجاً لتحول مجتمعي هام في المغرب ، وعبَّرت بوضوح ، عن تعاطفه مع دورٍ مستجدٍ للغناء ، أصبح ممكناً له ، في الوجدان الجمعي ، أن يعبر عن إحباط النساء ، أمام ظلم الحياة الذي دام طويلاً!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.