حامل الهوى تعبُ بصوت صباح فخري وألحان عزيز غنّام : رؤية لحنية خامسة لقصيدة أبي نواس حمّالة الأوجه ، اعتمدت التعب مفتاحاً للَّحن ، واستكملت القوالب المتاحة لتلحين القصيدة ، وفتحت مجالاً للتصويت على النسخ الخمس!

شعار كتاب الأغاني الثاني

 أُنهي اليوم سلسلة من المقالات ، تناولت الرؤى اللحنية المتعددة لملحنين ، اجتذبتهم قصيدة أبي نواس الشهيرة ، حمّالة الأوجه : حامل الهوى تعبُ.

كما أُطلق  في النشرة التالية ، وبعد استكمال نشر النسخ الخمس للقصيدة ، تصويتاً عليها ، لكي نتبين جميعاً ، أي النسخ كانت الأقرب إلى التعبير عن مضمون القصيدة  ، وذلك بعد أن تم تحليل نسخ الأغنية الخمس جميعها ، بشكل وافٍ.

كنّا قد لاحظنا في النشرات الأربع السابقة ، أن النص حمل مفردات متناقضة ، أو منسجمة ، أو مختلفة المعاني ، وردت فيه على التوالي ، وحمَّلته أوجهاً متعددة: الهوى ، التعب ، الاستخفاف ، الطرب ، البكاء ، اللعب ، السقم ، الصحة ، الضحك ، الانتحاب!

وأن الأخوين رحباني ، وضعا لحنهما الحيوي ، الذي كان موضوع النشرة الأولى في هذا السياق ، بناءاً على : الاستخفاف ، اللعب ، الضحك ، الصحة ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها ، متأثريَن في ذلك أيضاً برشاقة البحر الشعري الذي بنيت عليه القصيدة ، وهو البحر المقتضب ، وأنهما تجاوزا : التعب ، البكاء ، الانتحاب ، السقم ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها أيضاً ، و لكنها تشكل رؤية مختلفة ، كانت هي التي اعتمدها الشيخ يوسف المنيلاوي ، في نسخته للأغنية ، لتأتي نسخة زكية حمدان من ألحان توفيق الباشا لتعتمد الحيرة ، أمام الموقف الذي وصَّفته القصيدة ، ولتميز بين العام والخاص في النص ، ثم نسخة سيد مكاوي ، التي اعتمدت الطرب مفتاحاً للّحن.

لنأتِ الآن إلى نسخة الأستاذ صباح فخري ، التي وضع لحنها الأستاذ عزيز غنّام. كنا قد تعرفنا ، في نشرات سابقة على هذه الصفحة ، على جانب آخر من فن الأستاذ عزيز ، وهو العزف على العود ، من خلال تقاسيمه التأملية على مقام النهاوند ، أو تحويله للكابالا الأندلسية ماريا مجدلينا إلى عزف تأملي ، فيما سنتعرف عليه اليوم ملحناً ، وعازفاً على آلة النشأت كار.

النص

رأينا فيما سبق ، أن الأخوين رحباني و يوسف المنيلاوي وسيد مكاوي حافظوا على ترتيب الأبيات كما أتت ، في أصل نص القصيدة ، بينما أبدل الأستاذ توفيق الباشا هذا الترتيب في نسخة زكية حمدان ، وفق الرؤية التي اعتمدها للحنه ، وكذلك فعل الأستاذ عزيز غنّام ، إذ بدَّل ترتيب الأبيات لتصبح كالتالي:

حامل الهوى تعبُ يستخفه الطربُ

إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ

تضحكين لاهية و المحب ينتحبُ

تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ

كلما إنقضى سبب منك عاد لي سببُ

حامل الهوى تعبُ يستخفه الطربُ

اللحن

تبدأ الأغنية بلحنٍ هادئ على مقام الحجاز ، بني على إيقاعٍ ، بلغ عدد نقراته 13 نقرة أيضاً أي 13/8 ، ويمكن عدُّه رؤية أخرى لإيقاع الظرافات ، الذي كنا شهدناه في لحن سيد مكاوي ، إذ جاء مع بعض التبديل في مواقع التقرات. تؤدي الفرقة الموسيقية اللحن ، متقاطعاً مع أداء جميل على آلة النشأت كار ، يؤديه الأستاذ عزيز غنّام ، بأسلوبه الرائع ، مرافقاً أداء الأستاذ صباح ، على طول اللحن. يمكن تفسير هذه المتابعة الواضحة ، وعلى طول الأغنية ، من آلة النشأت كار ، على أنها تأتي في سياق حق الملحن ، في أن يبرز عزفه ، على آلة نادرة التوظيف في الموسيقى العربية ، كبصمة تطبع اللحن بطابعه ، وهذا ما كنت ألحظه أيضاً ، في بعض ألحان الأستاذ عاصي رحباني للسيدة فيروز ، حيث يرافقها بالعزف على آلة البزق.

ولكن هناك تفسيراً محتملاً آخر ، وهو أن هذه الآلة ، الحادة في رنين صوتها ، والمعتمدة على النقرات المتلاحقة ، قد تمثل المحبوبة اللاهية ، الممتلئة حيوية ، والتي تجسد القصيدة ، في نصِّها ، حضورها اللامبالي و اللاهي أمام المحب ، إذ يخاطبها مباشرة ، فارتأى الأستاذ عزيز ، كما أعتقد ، أن يجسد ذلك الحضور الحيوي، اللامبالي ، ولكن المتابع لمجريات الحدث ، عبر آلة النشأت كار ، إضافة إلى واقع أنها تحمل بصمته ، مشكلاً بذلك تضادّاً واضحاً مع الجو العام الهادئ للَّحن ، الذي أرى ، بالمقابل ، ومن الآن ، أنه ، و بهدوئه ، يشي بأن الأستاذ عزيز غنّام ، اعتمد التعب ، كلمة مفتاحية ، فجاء اللحن معبراً عن المحب المتعب ، وهو التعبير الذي سيجد تأكيداً واضحاً له ، لاحقاً!

تبدأ المجموعة بأداء البيت الأول ، في لحن هادئ ، ليدخل الأستاذ صباح مع البيت الثاني : إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، وكأنما هو المحب يتحدث عن نفسه ، مع أداء تعبيري واضح عن البكاء ، وتوقف تعبيري على درجة الفا دييز ، في سياق مقام الحجاز على الري ، للتعبير عن الحسرة ، عند : ليس مابه لعبُ ، ليتصاعد اللحن ، على مقام الحجاز كار ، معبراً عن استنكارٍ للحالة الموصوفة ، عند : تضحكين لاهية والمحب ينتحبً ، تعجبين من سقمي ، مع تغيير في الإيقاع ، ليصبح مبنياً على 8 نقرات فقط أي 8/8 ، هي النقرات الثمانية الأولى ، مقتطفة من الإيقاع الأصلي ، ليصبح الأداء بعد ذلك مرسلاً عند : صحتي هي العجبُ ، كذروة لهذا التصاعد الانفعالي الاستنكاري ، في تعبير عن أهمية المقولة ، التي تبلغ المحبوبة ، بواقع حاله .

يدخل الأستاذ صباح بعد ذلك في شرح أسباب تدهور صحة المحب ، من خلال أداء مرسلٍ أيضاً يؤكد على المعنى : كلما انقضى سببٌ عاد منك لي سببُ ، ليعود بعدها لأداء البيت الأول : حامل الهوى تعبُ يستخفه الطربُ ، ولتكرره المجموعة ، في ما يشي بقرب اختتام الأغنية ، ليدخل الأستاذ صباح لاحقاً ، و بشكل غير متوقع ، في تصاعد لحني ، حتى ختام معلَّق ، مكرراً الشطرة الأولى فقط من البيت الأول : حامل الهوى تعبُ ، متوقفاً عند كلمة : تعبُ ، في أداء تعبيري لافتٍ وحاسمٍ ، ودون إكمال البيت ، وهنا يوضح لنا الأستاذ عزيز غنّام ، أن الكلمة المفتاح في لحنه ، كانت فعلاً : التعب!

القالب في النسخ الخمس

اعتمد الأخوان رحباني ، في نسخة السيدة فيروز ، و الشيخ سيد مكاوي ، في نسخته ، قالب الموشح أساساً ، كما رأينا ، سواء من خلال تقديم نسخة السيدة فيروز مع رقص السماح ، أو في تقديم الشيخ سيد لنسخته مع الإيقاعات المركبة ، فيما اعتمد كلٌ من الشيخ يوسف المنيلاوي ، في نسخته ، والأستاذ توفيق الباشا ، في نسخة السيدة زكية حمدان ، قالب القصيدة الغنائية ، سواء بشكلها التقليدي ، عند الشيخ المنيلاوي ، أو بشكلها المتطور ، عند توفيق الباشا.

بالمقابل ، اعتمد الأستاذ عزيز غنّام قالب المونولوج الرومنسي ، الذي كان أبدعه الأستاذ محمد القصبجي ، في العشرينات من القرن الماضي ، وبناه على عناصر المدرسة الرومنسية ، التي تقدس الجمال ، من خلال امتدادات صوتية ، تبرز جمال صوت المطرب ، وخاصة في ختام العمل الغنائي ، و التي تتميز أيضاً بتقلب المزاج ، من خلال إدخال التناوب بين المرسل والموقَّع ، أو التغييرات الإيقاعية المتلاحقة ، إذ وجدنا أن لحن الأستاذ عزيز ، في نسخة الأستاذ صباح فخري ، اعتمد التناوب بين المرسل والموقَّع ، ونفذ تغيرات إيقاعية ، كما أسلفت ، ووفر الامتدادات الصوتية ، التي تبرز جمال صوت الأستاذ صباح ، سواء في سياق الأغنية ، أو في الختام المعلق ، الذي وظَّفه الأستاذ عزيز ، لإبلاغنا ، كما بينت أعلاه  ، بالكلمة المفتاح ، التي غلَّفت أجواؤها ، الصياغة العامة للَّحن ، ولكنه مع ذلك بنى لحنه على إيقاعات مركبة ، درج استعمالها في قالب الموشحات ، ماجعل القالب النهائي جامعاً للأصالة والمعاصرة في آن واحد!

الفيديو المرفق ، غير منشور على الانترنت ، وهو من تسجيلاتٍ خاصة ، كان الأخ الأستاذ صباح فخري قد تفضل بتسجيلها ، لصالح برنامجي التلفزيوني : نهج الأغاني ، وهو من إخراج الأستاذ رياض هاني رعد ، و كنت قد كتبتُه وقدمتُه عام 1997 ، حيث عُرض حينها على أغلب الفضائيات العربية ، التي كانت لا تزال تهتم بالفن الأصيل.


في النشرة التالية أطرح إذا مقارنة وتصويتاً على  النسخ الخمس لهذه القصيدة!

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.