حامل الهوى تعبُ بصوت زكية حمدان وألحان توفيق الباشا : تسجيلٌ نادر يجسد رؤيةً لحنيةً ثالثة لقصيدة أبي نواس حمّالة الأوجه اعتمدت الحيرة أمام الموقف وفرَّقت بين العام والخاص!!

شعار كتاب الأغاني الثاني

أتابع اليوم ، مجدداً ، و كما سبق و وعدتُ ، مع قصيدة أبي نواس الشهيرة : حامل الهوى تعبُ ، التي تداولها الملحنون في رؤى مختلفة ، إذ أن النص أتى حمّالاً لأوجه متعددة ، أوردها فيما يلي بين قوسين ، بحيث سمح كل وجه منها برؤية مختلفة للجو العام الملائم لتلحينها :

حامل (الهوى ) ( تعبُ ) ( يستخفه ) ( الطربُ )

إن ( بكى ) يحق له ليس ما به ( لعبُ )

كلما إنقضى سبب منك عاد لي سبب

تعجبين من ( سقمي ) صحتي هي العجب

( تضحكين لاهية ) و المحب ( ينتحبُ )

وكنّا قد لاحظنا في النشرتين السابقتين ، أن النص حمل مفردات متناقضة ، أو منسجمة ، أو مختلفة المعاني ، وردت فيه على التوالي ، وحمَّلته أوجهاً متعددة:

الهوى ، التعب ، الاستخفاف ، الطرب ، البكاء ، اللعب ، السقم ، الضحك ، الانتحاب!

وأن الأخوين رحباني ، وضعا لحنهما الحيوي ، الذي كان موضوع النشرة قبل السابقة ، بناءاً على : الاستخفاف ، اللعب ، الضحك ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها ، وأنهما تجاوزا : التعب ، البكاء ، الانتحاب ، السقم ، وهي معانٍ منسجمة فيما بينها أيضاً ، و لكنها تشكل رؤية مختلفة ، كانت هي التي اعتمدها الشيخ يوسف المنيلاوي ، في نسخته للأغنية ، التي كانت موضوع النشرة السابقة.

فماذا عن نسخة هذه القصيدة التي جاءت بصوت زكية حمدان ، و ألحان الأخ العزيز و الموسيقار الراحل توفيق الباشا؟

زكية حمدان

ولدت زكية حمدان في #حلب عام 1925 برزت موهبتها منذ طفولتها ، أذ كان لصوتها الرخيم رنين خاص ، يميزه عن غيره من المطربات بسهولة . تعلمت على كبار الأساتذة في حلب ، غناء القصائد والموشحات والأدوار ، وعزف العود ، فيما علّمها والدها الفنان المسرحي حسن حمدان التعبير عن الكلمة المغناة . غنت زكية حمدان أيضاً من أعمال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، التي شاعت في تلك الفترة ، وبالمقابل درست على يد الملحن وعازف البيانو أنطوان زابيطا ، الذي وجهها باتجاه المونولوجات الرومنسية ، ولحن لها بعضها ، ورافقها بالعزف على البيانو . في بداية الخمسينات اشتهرت لها قصيدتان ، من ألحان الملحن وعازف الكمان اللبناني خالد أبو النصر ، وهما : سليمى من كلمات نوفل الياس ، و خلقت جميلة من نظم مدحة عكاش . انتقلت إقامة زكية حمدان إلى بيروت لاحقاً ، وتوفيت عام 1987 في الكويت.

الموسيقار توفيق الباشا

مؤلف موسيقي وملحن لبناني ، ولد عام 1924 و درس العزف على آلة التشيللو ، في معهد الموسيقى التابع للجامعة الأمريكية في بيروت ، ثم تابع دراسة التأليف الموسيقي ، على يد الأستاذ برتران روبيّار .

شكل مع الأخوين عاصي ومنصور رحباني و زكي ناصيف و توفيق سكر ما سمي عصبة الخمسة ، التي هدفت إلى إعادة تقديم الفولكلور برؤى موسيقية جديدة. وضع عدة مؤلفات موسيقية مبنية على قالب السمفوني ، منها سمفونيات : الليل ، فوق البنفسجية ، بيروت ، السلام ، كما وضع عدة إنشاديات للكورال ، ومنها : الإنشادية النبوية.

انتبه إلى انحسار أداء الأدوار والموشحات ، منذ أربعينات القرن الماضي ، فركز على إعادة توزيعها أوركسترالياً ، وتسجيلها لصالح الإذاعة اللبنانية ، وشركات الأسطوانات ، ومن ذلك ، إعداده لفاصل أسق العطاش ، الذي سجله مع الأستاذ صباح فخري ، ودور أنا هويته وانتهيت ، الذي سجله بصوت سعاد محمد ، بمصاحبة الأوركسترا ، وهو الذي كان دربها في بداياتها ، على أداء الأدوار والموشحات.

قصيدة حامل الهوى تعبُ بصوت زكية حمدان و ألحان توفيق الباشا

لاحظ توفيق الباشا أن النص يجسد رؤيتين رئيسيتين متناقضتين : الاستخفاف ، و السقم ، كما أسلفنا ، وأنا أرى أنه اعتمد رؤية ثالثة ، وهي وجهة نظر المراقب ، الذي يتعاطف مع المحب ، طبعاً ، ولكنه يحتار أمام الوضع الموصوف في القصيدة ، بين محب ينتحب ، و محبوبة لاهية ضاحكة ، ولذا فقد فجاء لحنه بطيئاً ، في تعاطفه مع المحب ، و مبنياً على مقام اللامي ، وهو مقام يعبر عن الحزن و الحيرة ، لأنه يتميز عن غيره من المقامات الموسيقية ، ذات درجة الاستقرار الواضحة ، كأن نقول أن مقام البيات يستقر على درجة الدوكاه ( الري ) ، ومقام الراست يستقر على درجة الراست ( الدو ) ، في أنه يتلون في جمله اللحنية ، بين درجتي استقرار ، إحداهما أساسية : البوسليك ( المي ) ، والثانية فرعية : الحسيني ( اللا ) ، كما أن إبراز المقام ، يتطلب التوقف عند الإثنتين ، في شكل متناوب ، حتى الاستقرار الأخير على الدرجة الأساسية ، في تعبير واضح عن الحيرة.

ومما يؤكد ما أقول ، في أنه اعتمد موقف المراقب ، إعادته للبيتين الأولين في ختام الأغنية ، لكي يؤكد على رؤيته ، التي تنظر للموضوع ، من وجهة نظر خارجية حيادية ، و أنه ، عندما يختتم الغناء ، ينهي اللحن على درجة الاستقرار الأساسية للمقام ، ولكنه ، وبشكل مفاجئ ، يتابع مع الفرقة الموسيقية في جملة لحنية قصيرة ، تختتم العمل بكامله ، وتستقر على درجة الاستقرار الفرعية!

ألاحظ أيضاً أن توفيق الباشا عكسَ ترتيب الأبيات الثلاثة في القصيدة ، التي يوجه فيها الشاعر الكلام للمحبوبة ، بحيث أعطت المعاني جرعة درامية أوضح ، وتسلسلاً منطقياً أسلس ، إذ يبدأ النص بتوصيف الحالة ، من وجهة نظر مراقب : حامل الهوى تعب يتسخفه الطرب ، إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، وهي حالة كل محب ، ليتابع مع بيت : تضحكين لاهية والمحب ينتحب ُ ، حيت يأتي التسلسل منسجماً بشكل أفضل ، إذ أن هذا البيت يتحدث أيضاً عن البكاء ، ولكنه يحقق أيضاً الانتقال من توصيف حالة عامة ، إلى موقف خاص بمحب ومحبوبة ، ويؤكد الباشا على هذا الانتقال ، من خلال تغيير المقام ، إذ يأتي اللحن هنا على مقام البيات ، لينتقل الغناء إلى البيت التالي : تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ ، الذي يوصِّف السقم ، مع الاستمرار مع مقام البيات ، فتبيان أسباب السقم ، في البيت الذي يلي : كلما انقضى سبب منك عاد لي سببُ ، إذ أن تكرار أفعال المحبوبة تجلبه ، مع عودة فيه إلى مقام اللامي ، حيث يشكل هذا البيت إذاً ، الجسر للعودة إلى الموقف التوصيفي العام ، الذي يعود للظهور ، مع تكرار البيتين الأولين ، في ختام الأغنية.

وهكذا جاء ترتيب الأبيات كما يلي:

حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ

إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ

***

تضحكين لاهية و المحب ينتحب

تعجبين من سقمي صحتي هي العجب

كلما إنقضى سبب منك عاد لي سبب

***

حامل الهوى تعب يستخفه الطربُ

إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ

لابد أيضاً من التوقف عند أداء زكية حمدان لكلمة : يحق ، في البيت القائل : إن بكى يحق له ليس ما به لعبُ ، مرتين ، سواء في بداية الأغنية أو في ختامها ، عندما تؤديها كما يلي : يحِ قُ له ، أي بتوقف بين جزأي الكلمة ، في تعبير عن الغصة التي تعتري الباكي . طبعاً لو كانت أدتها مرة واحدة بهذا الشكل ، لقلتُ بأنها صدفة ، ولكن تكرارها بالأسلوب ذاته ، في بداية الأغنية ، و في ختامها ، يؤكد ما ذهبتُ إليه!

ومما يؤكد قراءتي ، أخيراً ، في أن الجو العام للّحن ، بُني على الحيرة ، المتعاطفة مع المحب المتألم ، أمام الوضع العام الذي وصّفته القصيدة ، أن أداء زكية حمدان ، بصوتها الرائع ، جاء محايداً ، لأنها كانت راويةً للحدث ، و لم تكن طرفاً فيه!

يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت فيروز ووديع الصافي

يمكن متابعة تحليل نسخة القصيدة بصوت يوسف المنيلاوي

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.