القدود الحلبية: مخزون من الألحان متبدلة النصوص تشكل في حلب عبر السنين من روافد محلية و خارجية في عملية مثاقفة غير مسبوقة احتضنتها حلب بحكم موقعها على تقاطع خطوط التجارة العالمية : يا إمام الرسل و تحت هودجها نموذجاً

شعار كتاب الأغاني الثاني

لوحة فنية تصور حلب القديمة وقلعتها بريشة «ألكسندر دورموند» عام 1754م

اشتهرت مدينة حلب ، ومنذ زمن بعيد ، بنمطين من الغناء خاصين بها ، سمي الأول : الموشحات ( الأندلسية في صورتها ) الحلبية ، والثاني : القدود الحلبية ، وهما نمطان من الغناء ، الثاني منهما صورة مبسطة عن الأول.
وفي الواقع ، فإن القدود الحلبية تندرج ضمن مسار موسيقي قديم جداً ، اعتمد مبدأ إعادة توظيف الألحان القديمة بنصوص جديدة ، لأسباب متنوعة ، قد أتوقف عنده في مقال قادم ، فيما أركز اليوم ، وفي اختصار شديد ، على القدود الحلبية والقدود الصوفية ، والعلاقة بينهما.

القدود الحلبية مخزونٌ كبير من الألحان المبهجة البسيطة ، أنتجتها قرائح ملحني تلك المدينة ، التي شهدت حتى نهاية القرن التاسع عشر ، ولعدة قرون انقضت ، مكانة تجارية واقتصادية مرموقة ، حققها موقعها الاستراتيجي، على مسار القوافل المتجهة من أقصى شرق آسيا إلى أقصى غرب أوربا ، ومن أقصى جنوب الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي، إلى أقصى شمال العالم الإسلامي ، ما ولَّد ظروف عيشٍ مترفة ، شكلت سوقاً رائجة للغناء.

كان ذلك المخزون اللحني ، متبدل النص حسب الحال ، وتغير الظروف والرجال، متطوراً باستمرار ، كماً ونوعاً ، تبعاً لإنتاج الملحنين ، و لرافدٍ هامٍ آخر، كانت تؤمنه القوافل التجارية الوافدة إلى حلب. كانت تلك القوافل تنقل غناء بلادها الأصلية ، وتتلاقى في خانات حلب، حيث يحصل نوع خاص من المثاقفة ، بينها وبين مطربي وملحني المدينة، ينتج عنه حفظ الألحان الوافدة ، وتحويلها إلى لهجة المدينة الدارجة ، لتدخل المخزون اللحني الضخم ،وتسهم في سهرات حلب ، التي كان يقيمها كبار التجار يومياً ، للتخلص من عناء المتاجرة، في زمن لم يكن قد ظهر فيه التلفاز ، لينهي تلك اللقاءات المتكررة بين المتلقي والمبدع ، فيما بالمقابل كانت ألحان ملحني حلب و عناصر مخزونها اللحني ، تعود مع مطربي القوافل إلى بلدانهم ، لتستبدل نصوصها ، إلى اللهجة المحلية ، و تنضم إلى تراث تلك البلدان! ومع ذلك فإن مركز اللقاء كان يختزن الناتج الكامل لعملية التثاقف ، مع القوافل القادمة جميعها ، فيما كانت كل قافلة تختزن ما أتيح لها في رحلتها.
كانت عملية التحويل تتم ، مَثَلها مَثَل طريقة استبدال أي نص جديد بنص قديم للحن سائر، بحيث يكون النص الجديد على ( قد) اللحن ، أي على قد إيقاعه الموسيقي ، والعناصر الموسيقية في نصه الأصلي ، حسبما سنشرح لاحقاً. كان الناتج الجديد يسمى دوماً: القدود الحلبية ، وهي الألحان الناتجة ، في حلب ، عن إعادة توظيف ألحان محلية ، حسب مقتضيات تغير العصر ، أو وافدة ، عبر تجريدها من نصوصها القديمة ، محلية كانت أو بلهجة أو لغة أخرى ، وإكسائها بنصوص جديدة، باللهجة المحلية ، لتتلاءم مع أذواق المستمعين ، من كبار التجار، الذين كانوا ، أهم ممولي الغناء.
عندما انتقلت ألحان حلب إلى مصر ، على يد شاكر الحلبي ، حوالي العام 1830 ، بقيت بلهجتها الحلبية ، كما يقول كامل الخلعي في الصفحة 142 من كتابه الموسيقى الشرقي ، إلى أن أتى عبده الحمولي ، كبير مطربي مصر في نهايات القرن التاسع عشر ، ليعدل نصوصها ، متجهاً بها إلى العامية المصرية ، ( فيما يمكن تسميته بالقدود المصرية ) ، ومنها ما كان يعاد إدماجه في مخزون حلب من القدود الحلبية ، بلهجته الجديدة ، أي بالعامية المصرية ، إلى جانب إدماج الألحان الجديدة المولَّدة في مصر ، بالعامية المصرية أيضاً ، بعد أن شاع الغناء بها ، في بدايات القرن العشرين ، بتأثيرٍ من انتشار الأسطوانات القادمة من مصر ، ثم بتأثير من الإذاعة والأفلام المصرية.

الصفحة 142 من كتاب الموسيقى الشرقي لكامل الخلعي

القدود الحلبية تدخل عالم الإنشاد الديني عبر مبدأ الموشح المكفر
في نشرة سابقة ، كنت قدمت بلبل الشام توفيق المنجد وهو يؤدي أغنية قمر له ليالي ، من ألحان داود حسني ، ثم النص الذي بني علي لحنها من قبل الشيخ حسن التغلبي ، حيث وضع له نص: دعوني وحالي ، وقلتُ حينها بأن هذا المبدأ في إعادة توظيف الألحان الدنيوية كان قد أرساه ، و منذ القرن الثالث عشر الميلادي ، الإمام محي الدين ابن عربي ، وأئمة آخرين للتصوف ، وبخاصة في الأندلس، لرفد عالم التصوف بالألحان ، بعد أن تم اعتماد الغناء ضمن طقوسه. سمي هذا الأسلوب في الأندلس : الموشح المكفر.

كانت الأندلس في تلك الفترة تختزن أعداداً كبيرة من الموشحات الأندلسية المغناة أساساً في مواقع الغناء الدنيوية . وكان عالم التصوف يفتقر إلى الألحان المساعدة على أداء الغناء ضمن طقوسه ، وهكذا نشأ الموشح المكفر، وهو عبارة عن لحن لموشح دنيوي ، يجرد من نصه الأصلي الملائم للغناء الدنيوي ، ويكسى بنص جديد، يلائم الأغراض الجديدة. وبما أن اللحن أصبح مساهماً بشكل أو بآخر في طقوس التصوف، فإنه سيساهم في التكفير عن ذنوب صاحبه ، كما أنه سيساهم كذلك في التكفير عن ذنوب من نظم نصه الجديد ، مما استدعى تسميته بالمكفر.
انتقل هذا الأسلوب مع الإمام ابن عربي ،عندما استقر في دمشق ، للإقامة فيها ، وسار هذا الأسلوب حتى أيامنا هذه ، وشاع في مختلف الأقطار العربية ، إذ أصبح من الممكن أن تجد لحناً لموشح ، يتوافق مع عدد كبير من النصوص الصوفية الجديدة، المصاغة شعراً ، مما دفع أحد أهم من نظموا على هذا الأسلوب ، وهو الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ، إلى أن يذكر اسمه في صلب نصه الخاص ، كنوع من التوقيع، خوفاً من أن ينسب لغيره في وقت لاحق!

من القدود الحلبية إلى القدود الصوفية
بعد انتشار أسلوب الموشح المكفر في الطقوس الصوفية ، انتبه الشيخ النابلسي ( توفي عام 1730 م ) ومن بعده آخرون ، كالشيخ عمر اليافي ( توفي عام 1818 م ) ، والشيخ أمين الجندي الحمصي ( توفي عام 1841 م ) ، إلى مخزون حلب الكبير من ألحان القدود والموشحات ، وإلى الألحان الشعبية في دمشق والمدن الأخرى ، فقاموا جميعهم ، والنابلسي أولهم ، بوضع نصوص شعرية جديدة لها على الغالب ، وبالعامية أحياناً ، من صياغتهم ، تلائم أغراض طقوس التصوف ، وهكذا نشأ ما يمكن أن نسميه القدود الصوفية ، التي كثيراً ماكان يعاد إدماجها في مخزون حلب اللحني ، لتدخل في نسيج القدود الحلبية ، أو موشحاتها ، بنصها الشعري أو العاميّ الجديد ، كما أن الملحنين في حلب ، كانوا كثيراً ما كانوا يضعون ألحاناً جديدة ، لتغنى في الإطار الدنيوي والصوفي ، من خلال اختيار نصوص ملاءمة للحالتين ، ما قلَّص الحدود الموسيقية بين العالمين الدنيوي والديني.

صفحة من ديوان الشيخ عبد الغني النابلسي تبين صياغته للشعر على عروض ( قد ) أغنية عيني عليك سيالة


نظم للشيخ عمر اليافي على عروض دعدوس يابو الزلف


نظم للشيخ أمين الجندي على عروض شبكتني ليه يا سيدي


أقدم فيما يلي ، و لمن يرغب في الاستزادة ، وصفاً مبسطاً لأسلوب بناء نص جديد على قد لحن القديم ، يبين صعوبة الموضوع وذلك من خلال القد النيوي : تحت هودحها ، والقد الصوفي : يا إمام الرسل ، حيث بني اللحن على مقام البيات
يعتمد أسلوب صياغة نص على ( قد ) لحن ، على توافق الموسيقا الداخلية في النصين القديم والجديد ، بما يساير إيقاع اللحن ، وهناك قاعدتان أساسيتان لإنجاح عملية الصياغة:
1- يصاغ النص الجديد (على قد ) الإيقاع الموسيقي للحن الأصلي ، و و بنفس طول الجملة اللحنية المغناة ، المرتبطة بما يقابل المقطع الجديد من المقطع القديم.
2- يراعى في النص الجديد أن تتتالى الأحرف بحيث يحافظ ما أمكن على موسيقا النص القديم الداخلية. فمثلاً إن كان هناك حرف صوتي في المقطع القديم يمد عنده اللحن ، فلا بد من تواجد حرف صوتي مماثل في النص الجديد ، ليحقق مد اللحن في الموقع نفسه. وفي الواقع فإن أغلب حالات الاستبدال لا تحقق المطلوب.
يمكن الآن لزيادة الإيضاح ، أن أعطي مثالاً ، في أبسط صورة ممكنة ، يبين التوافق بين النص القديم والجديد ، من حيث إيقاع الشعر ، وفساده موسيقياً :
لنأخذ القد الدنيوي : تحتِ هودجها وتعانقنا ، وما يقابله في القد المشهور على اللحن ذاته : يا إمام الرسل يا سندي ( نتابع الأغنيتين في الفيديو المرفق بصوت الأستاذ صباح فخري) . من ناحية الإيقاع الشعري هناك توافق مقبول ، وفق التالي: تم تحديد الأقواس بحيث ينتهي ما بين القوسين بحرف مد في النص الدنيوي وما يقابله في النص الديني
القد الدنيوي : تَحْ ْتِهو دَجْ ( ها ) – ( وُتْ عا ) ( نَقْ نا )
القد الصوفي : يا إما مَرْ ( رُسْ ) – ( لِيا ) ( سَنَ دي )
***
القد الدنيوي : ( صار سحب سيو) ف يا ويل ( حالي )
القد الصوفي : ( يا ملاذَ الخا) خا ئفِلْ ( وجِلِ )

نلاحظ بسهولة أن هذا التوافق يفسُدُ أثناء الغناء . إذ يتبين أن مقابل ( ها ) في الشطرة الأولى من البيت الأول ، حيث يمتد اللحن ، هو ( رُسْ ) ، في الشطرة الأولى من الأغنية الثانية حيث لا يمكن مد اللحن على ساكن ، ما يجبر المغني على إضافة واو مدٍ بين الراء والسين ، لتصبح ( روس ) ما يفسد اللفظ تماماً ، كما يظهر الفيديو ! فيما كان التوافق مقبولاً بين : ( وُتْ عا ) في الشطرة الثانية من البيت الأول مع ( لِيا ) حيث يتوافق المد بعد خطف ( وتْ ) لتقابل ( لِ ).
ونجد الملاحظة ذاتها بين : صار سحب سيوف يا ويل حالي و : يا ملاذ الخائف الوجل ، حيث يضطر الأستاذ صباح فخري ( والمجموعة ) أن يكرر ( خا ) مرتين ، لضبط إيقاع اللفظ ، مع إيقاع اللحن ، ناهيك عن الاضطرار لمد الفاء المكسورة في ئِفِلْ لتقابل مد الياء في ويل!

يؤدي هذا بالنتيجة إلى ملاحظة هامة ، إذ أن هذا الفساد في اللفظ ، في النسخة المغناة شعراً ، يثبت أن الأصل هو اللحن الدنيوي ، الذي يتوافق فيه النص مع اللحن ، في مدوده ، و أن النص الشعري الصوفي ، جاء لاحقاً ، على عكس الشائع ، في دراساتٍ لباحثين كبار ، اعتمدوا أن النص الديني في هذا القد هو الأصل ، دون أن ينتبهوا إلى أن التحليل الموسيقي المقارن يثبت عكس ذلك!

النص الدنيوي
تحت هودجها وتعالجنا * صار سحب سيوف يا ويل حالي
يا ويل يا ويل يا ويل حالي * أخدوا حِبي وراحوا شمالي
راحوا لبعيد لبعيد راحوا * كيف بَدي طير وجناح مالي
**
ما قتلني غير أبو المشلح * يا دهب يلطم على المدبح
قلتلها يا حلوه قومي نسرح * قالت ما استجري سبعة اخوالي

النص الديني

يا إمامَ الرسلِ يا سندي * أنتَ بابُ اللهِ و معتمدي
وفي دنيايَ وآخرتي * يا رسولَ الله خُذ بيدي
**
يا ابنَ عبد الله يا أملي * يا ملاذَ الخائفِ الوجلِ
نظرةً يا أشرفَ الرسلِ * وبغوثٍ حُلَّ لي عُقدي

قد يثير هذا البحث بعض الجدل ، ما سيستتبع إيضاحات لاحقة ، إن تطلب الأمر!


د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading