على طريق استشراف مستقبل موسيقانا العربية الأصيلة : دور أنا هويته وانتهيت بصوت سعاد محمد نموذجاً

شعار كتاب الأغاني الثاني

أنشر اليوم ، وفي سياق مجموعة من المقالات ، أعرض فيها لتجارب هامة ، على طريق استكشاف فرص استدامة موسيقانا العربية ، عملاً غنائياً ، سيبقى علامة مضيئة في تاريخ الغناء العربي ، و هو دور ” أنا هويته وانتهيت ” ، من كلمات الشيخ محمد يونس القاضي ، و ألحان الشيخ سيد درويش ، في الصيغة التي وضعها الموسيقار الراحل ، والصديق العزيز ، توفيق الباشا ، وأدتّها باقتدار قل نظيره ، الفنانة الكبيرة سعاد محمد.
كنت عرضت في المقالات السابقة ، تجربة أمير الكمان سامي الشوا ، في أداء مسارات الغناء ، في دوركادني الهوى ” ، من ألحان محمد عثمان ، عزفاً على الكمان ، وبمصاحبة الفرقة الموسيقية ، كأسلوب جديد ، في حينه ، لإعادة تقديم التراث الغنائي ، بعد تجريده من الكلمات ، وإضفاء رؤى تعبيرية مختلفة عليه ، ذات طابع موسيقي هذه المرة ، ثم عرضت تجربة السيدة مها النجار ، في إضافة العنصر البصري والحركي على مهرجان القمح ، من ألحان محمد عبد الوهاب ، كأسلوب لتقديم الأعمال الغنائية ، في أسلوب بصري جديد.
أما اليوم ، فإنني أعرض تجربة أخرى ، في إعادة صياغة دورٍ ، كان سجله سيد درويش بصوته ، عام 1923 ، ليعاد تقديمه عام 1964 ، مع الأوركسترا ، بمقدمة موسيقية جديدة ، وختام موسيقي معاصر ، وصياغة موسيقية لامعة ، بصوت السيدة سعاد محمد ، ثم ليصور لاحقاً للتلفزيون.

توفيق الباشا

توفيق الباشا
موسيقار لبناني ، انتبه إلى انحسار أداء الأدوار والموشحات ، منذ أربعينات القرن الماضي ، فركز على إعادة توزيعها أوركسترالياً ، وتسجيلها لصالح الإذاعة اللبنانية ، وشركات الأسطوانات ، ومن ذلك ، إعداده لفاصل أسق العطاش ، الذي سجله مع الأستاذ صباح فخري ، ودور أنا هويته وانتهيت ، الذي سجله بصوت سعاد محمد ، بمصاحبة الأوركسترا ، وهو الذي كان دربها في بداياتها ، على أداء الأدوار والموشحات.

الدور
أستطيع دون تردد أن أعتبر قالب الدور ، كما تطور علي يدي المبدعين ، محمد عثمان وعبده الحمولي ، انطلاقاً من قالب تلحين الموشح ، وصيغة وصلة الموشحات ، كما كانا قد تطورا في حلب ، أهمَّ قالب غنائي في الموسيقى العربية ، من حيث التركيب ، ومن حيث احتوائه على مشاهد محددة ومتتالية ، تحكم إبداع الملحن ، وتوجهه نحو صيغ لحنية محكمة الترابط ، لا تكرار فيها لتلك المشاهد ، ولكنها تتضمن في خلايا كل مشهد ، تكراراً واضحاً ، يحرض استجابة المستمعين.

تتألف هذه الصيغة ، وفي إيجاز شديد ، من خمسة مشاهد متتالية:
أولاً : المذهب ، وهو عبارة من فكرة لحنية أولى، تؤديها المجموعة ، و تختتم بختام واضح ، ليأتي المشهد الثاني ، الذي ينفرد في أدائه المطرب، في فكرة لحنية قد تكون مماثلة في بدايتها للقسم الأول، لتخرج عنها في تفاعلات تتسع حسب سعة خيال الملحن ، مع ختام لهذا المشهد ، يشابه ختام القسم الأول ، فيما يتميز المشهد الثالث في بدايته بالآهات، وهي جمل لحنية متنوعة ومتفاعلة ، تغنى بلفظة ( آه ) ،في تناوب بين المطرب والمذهبجية ، تتداخل مع النص المغنى ، وتعتمد التتالي الانفعالي المحرض للطرب ، بما يعطي للدور ذروة لحنية واضحة ، و يسمح للمطرب أن يستعرض صوته ، ويبين مقدرته الفنية ، ومدى مهارته في الانتقال من درجة صوتية إلى أخرى .
عند انتهاء مشهد الآهات ، يبدأ المشهد الرابع المسمى اصطلاحاً ب ( الهنك ) ، وهو القسم الأطول بين مشاهد الدور ، ويتمثل في تلوين لحني ، مركب من أداء المطرب لجملة غنائية على لحن معين ، في المناطق الصوتية الحادة، فيكررها المذهبجية، ثم يؤدى المطرب كلمات الجملة الأولى نفسها ، ولكن بلحن ثان ، قد يكون أكثر حدة، في حين يستمر المذهبجية في تكرار الجملة الأولى.
قد يطول مشهد الهنك ، إذا دخل المطرب في جمل لحنية جديدة ، مبنية على النص ذاته ، متضمنة ارتجالاً ذوقياً، مع استمرار المذهبجية في الرد حسب الجملة اللحنية الأولى، وقد يتطور هذا الأسلوب، بالدخول في أجواء لحنية أخرى ، تعتمد التصاعد الانفعالي ، وصولاً إلى ذروة تجسد أقصى ما يستطيع المطرب الوصول إليه في منطقة الأصوات الحادة ، مع تلوينات مقامية ، تحرض الطرب والبهجة لدى المستمعين.
عند الاكتفاء من مشهد الهنك، يختتم المطرب هذا المشهد بنهاية ملحوظة أيضاً، حيث يشعر المستمع أن الدور قد قارب النهاية ، منتقلاً إلى مرور قصير على جسر من الآهات ، ليأتي المشهد الخامس و الأخيرفي جملة لحنية لا ترجيع فيها ولا ترديد، حيث تؤدى بسرد ألحان الكلمات دون تكرار أو توقف أو انقطاع، وينفرد المطرب في أدائها ، مع مشاركة من المجموعة أحياناً في الخلفية ، مختتماً بجملة لحنية تقارب جملة ختام القسم الأول ، في تأثر أيضاً بقالب الموشح ، الذي يتكرر دوره اللحني الأول في الختام.

حققت هذه الصيغة تغييباً كاملاً لدور النص ، حيث أصبح اللحن والأداء هو الأساس . يمكن التأكد من هذه النقطة ، من خلال استعراض نص دور ” أنا هويته وانتهيت ، الذي يمتد أداؤه لحوالي 12 دقيقة في التسجيل المرفق ، فيما كلماته تقتصر على أبيات محدودة وهي :
المذهب: المشهد الأول
أنا هويته وانتهيت وليه بقى لوم العذول؟
يحب إني اقول ياريت الحب ده عني يزول
مادمت انا بهجره ارتضيت خلي بقى اللي يقول يقول

الدور: المشهد الثاني
أنا وحبيبي في الغرام مافيش كده ولا في المنام

الآهات : المشهد الثالث

الهنك: المشهد الرابع
أحبه حتى في الخصام وبعده عني ياناس حرام

آهات على شكل جسر لحني فالختام : المشهد الخامس
مادمت انا بهجره ارتضيت منى على الدنيا السلام

اللحن
جاء لحن الدور على مقام الحجاز كار كرد ، كما عرَّج فيه سيد درويش على مقام البيات المحير ، حيث كان التطريب والتعبير عن البهجة سيدي الموقف . سجله سيد درويش بصوته عام 1923 ، بعد سنوات على تلحينه له ، وذلك على أسطوانات شركة بيضافون .
يمكن من متابعة صيغة الدور كما تم شرحها أعلاه ، والنص ، والتسجيل المرفق ، اكتشاف المشاهد الخمسة في قالب الدور ، كما يمكن التوقف عند الصيغة المبدعة في اللحن ، كما وضعه سيد درويش ، وأدته سعاد محمد باقتدار ، من حيث التضافر بين التعبير والتطريب ، وخاصة عند مشهد : أنا وحبيبي في الغرام ، مافيش كده ولا في المنام ، في التكرار التطريبي الذي يعبر أيضاً عن المعاني بشكل لافت ، ثم الآهات التي تأتي بعدها ، لتجسد المواقع في العلاقة بين الحبيبين ، التي يقصر النص عن شرحها!

أتت المقدمة الموسيقية تطويراً لقالب قديم في الموسيقى العربية : الدولاب ، وهو صيغة لحنية بسيطة ، القصد منها تجسيد المقام الموسيقي في وجدان المطرب ، قبل البدء بالغناء ، حيث بدأ توفيق الباشا ، من صيغة دولاب معروف ، على مقام الحجاز كار كرد ، لينتقل مباشرة وبعد الثواني الأولى ، لتفاعلٍ طبَّقه على جملته اللحنية المعروفة ، وليضيف نقف الكمان فيه ، بما يعبر عن نبض قلب المحب ، مع إنهاء اللحن في ختام معلق ، يمهد لبدء الغناء من الجواب ، أي منطقة الأصوات الحادة ، وهو الأسلوب التقليدي المعمول به ، في ألحان مقام الحجاز كار كرد عادة.

يبدأ اللحن ، بتخافض معبر عن الاستسلام عند : أنا هويته وانتهيت ، ليتوقف في تعبير لافت عن السؤال عند : وليه بقى لوم العزول ؟ وتجدر الإشارة هنا ، إلى المداخلات التي تنفذها الفرقة الموسيقية ، لاستكمال الصيغة الجديدة في أداء الدور.

أتوقف هنا أيضاً عند تعرجات الصوت عند كلمة : إني أقول ، لإبراز الألم من هذا العزول ، والتصاعد اللافت ، لمسافة صوتية مباشرة ، صعوداً بقدر ديوان كامل ، عند كلمة : الحب ، لإعطائها الأهمية الأساسية في مضمون النص . نتوقف أيضاً عند تحافض اللحن متحسراً ، عند : بهجره .
من المهم أن نلاحظ أيضاً ، أن بداية اللحن عند بداية المشهد الثاني : أنا وحبيبي في الغرام ، مافيش كده ولا في المنام ، تماثل بداية لحن المشهد الأول ، ولكنه لحن المشهد الثاني ، سرعان ما يتفاعل ، بتلوينات متدفقة تطريبية وتعبيرية ، تبرز سعة الخيال اللحني عند سيد درويش ، لنصل إلى الآهات المعبرة عن مشاهد ، تقصر اللغة عن التعبير عنها ، تجسد العلاقة بين الحبيبين، كما سبق وشرحت ، ليبدأ مشهد الهنك عند : أحبه حتى في الخصام ، كما سبق شرحه ، ليأتي الجسر اللحني ، في آههات عابرة ، فالختام.

صوت سعاد محمد
أبرزت سعاد محمد في هذا التسجيل مزايا صوتها القوي ، ذي الكثافة الصوتية الواضحة ، و القدرة النادرة ، على أداء التموجات اللحنية والزخرفات الصوتية ، والقفلات الشرقية الأصيلة ، إضافة إلى مساحة صوتها العريضة ، التي امتدت على 13 صوتاً موسيقياً صحيحاً ، و إلى أسلوب نطقها الواضح لمخارج الحروف ، ما أضفى على هذه الصيغة الجديدة ألقاً لا يجارى!

السؤال الآن : لماذا لا نعتمد هكذا صيغة ، لإعادة تقديم ثراثنا الموسيقي مجدداً ؟ طبعاً هناك موانع كثيرة ، ولكنها يمكن تجاوزها ، إن حَسُنت النيّات.. ولهذا حديث آخر..

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.