نشيد أنا المصري كريم العنصرين لسيد درويش : عندما يكمل اللحن ما أغفله النص ويلخص التطور الموسيقي عبر آلاف السنين في ثوان!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في عام 1921 ، قدمت فرقة سيد درويش مسرحية ” شهرزاد ” ، أو ” شهوزاد” ، من ألحانه ، بناءاً على نص مقتبس لعزيز عيد ، ونصوصٍ للأغاني والأناشيد لمحمود بيرم التونسي. عبَّرت المسرحية ، في أسلوب ساخر ، عن واقع أسلوب الحكم ، و عن شهوة التسلط ، إبّان الفترة الملكية في مصر ، ( ومن هنا أتى اسم شهوزاد) ، كما تضمنت إشادة بالشعب والجيش، من خلال أناشيد حماسية ، نظمها بيرم ، ومنها هذا النشيد : أنا المصري كريم العنصرين . جاء التسجيل بصوت المطرب ابراهيم حمودة ، في سياق تسجيلٍ كاملٍ للمسرحية ، قدمته الإذاعة المصرية عام 1957.
لنستعرض النص ، من أجل اكتشاف مكامن التعبير اللحني فيه:
أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الإهرمين
جدودي أنشأوا العلم العجيب
ومجرى النيل فى الوادي الخصيب
لهم فى الدنيا آلاف السنين
ويفنى الكون وهمّا موجودين
وأقول لك على اللى خلاني
أفوت اهلي وأوطاني
حبيب أوهبت له روحي لغيره لا أميل تاني
نلاحظ مباشرة أن النشيد لا ينص صراحة عن ماهية العنصرين اللذين ينتسب إليهما المصري . ومن هنا ، ولإيضاح المعاني ، فقد قسم الشيخ سيد اللحن ، الذي أتى على مقام العجم ، إلى قسمين ، عبَّر الأول عن موسيقى أحد العنصرين ، وهو العنصر الفرعوني ، فيما عبَّر الثاني عن موسيقى العنصر العربي ، محققاً الفصل بينهما عند كلمة : و أقلك ، حيث ينتقل من لحن مرسل ، يعبر عن نظرته إلى الموسيقا الفرعونية الهادئة ، ذات الجلال والعظمة ، إلى لحن عربي يتميز بإيقاعيته ، وميله إلى التطريب ، و إلى التضاريس اللحنية الواضحة.
من المهم ايضاً التوقف عند لمحات إبداعية مرت في ثوان ، ولكنها أبرزت مدى اتساع اطلاع الشيخ سيد ، في فترة تسبق أيامنا هذه بحوالي مائة عام!
لجأ الشيخ سيد ، لتكثيف جرعة التعبير ، إلى السلالم الموسيقية ، قديمها وحديثها ، لإبراز الفارق الزمني ، بين العنصرين ، حيث بنى لحنه ، في القسم الأول ، على الدرجات الصوتية للسلم السباعي ، في البداية ، وهو السلم المعاصر المعمول به عالمياً ، وذلك عند : أنا المصري كريم العنصرين ، لأن النص هنا يتحدث عن حالة معاصرة ( أنا المصري ) ، ليتحول اللحن عند : بنيت المجد بين الإهرامين ، حيث يعود النص إلى عصور قديمة مضت ، ليبنى على الدرجات الصوتية للسلم الخماسي ، أي السلم الموسيقي القديم ، الذي كان معمولاً به في الحضارات القديمة ، قبل اكتشاف السلم السباعي. يتكرر الأمر عند : ومجرى النيل في الوادي الخصيب ، حيث أتى اللحن على السلم الخماسي أيضاً ، ومتخافضاً ، للتعبير عن جريان النهر في الوادي الخصيب ، في إدماج لعنصرين تعبيريين في جملة لحنية واحدة! قبل أن يعود إلى : لهم في الدنيا آلاف السنين ، ليُبنى اللحن على الدرجات الصوتية السلم السباعي ، مستمراً في ذلك ، ليغطي القسم الثاني من اللحن ، الذي خصص للعنصر العربي!
نعم ، لقد بين لنا الشيخ سيد درويش ، في حوالي 90 ثانية من الموسيقى، أنه يعلم تماماً على أي سلم موسيقي بنيت الموسيقى القديمة أيام الفراعنة ، أولاً ، مع تطوير للجمل اللحنية الأخرى لتبنى على السلم السباعي ، لأن هذا السلم أصبح مطبقاً في الدولة الفرعونية الحديثة ، وفي الفترة العربية لاحقاً!

تجدر الإشارة إلى أن الشيخ سيد ، في محاولة التعبير عن موسيقى فرعونية ، لم تكن معروفة الملامح لديه ، اقترب من الآريات ، التي كان يسمعها ويشاهدها في عروض دار الأوبرا المصرية ، لأشهر الأوبرات العالمية ، ولكنه لم يرغب في إكسابها هذا الطابع الغربي بشكل كامل ، ولذا وظَّف السلم الخماسي ، لإعطائها الطابع القديم والمحلي ، بحيث يعبر لحنه عن الموسيقى الفرعونية .. لا الأوربية!

ملاحظة : يعود أقدم توثيق للحن بني على الدرجات الصوتية للسلم السباعي ، إلى لويحة أوغاريت ، التي اكتشفت في الخمسينات من القرن الماضي ، قرب اللاذقية في سورية ، والتي تعود إلى الألف الثانية قبل الميلاد ، حيث بني اللحن المدوَّن فيها على السلم السباعي ، لأول مرة في التاريخ. ولهذا حديث آخر!

Bookmark the permalink.

Comments are closed.