نشيد تحية العلم : عشرون ثانية من غناء عبد الوهاب أبدعت في التعبير المتلاحق عن مشاعر متباينة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

اخترت اليوم أن أتوقف عند ملامح التعبير المبكرة عند محمد عبد الوهاب  ، سواء في ألحانه أو أدائه الصوتي أو الجسدي ، في عمل محدد ، من كلمات أحمد رامي ، ورد في سياق فيلم دموع الحب عام 19355 : نشيد تحية العلم!

في عام 1935 ، كان عبد الوهاب قد قدم ، في عشر سنوات ، أغلب القوالب الغنائية في الموسيقى العربية ، كما كان قد رسم ملامح الأغنية السينمائية ، منذ فيلمه الأول الوردة البيضاء عام 1933 ، في ضرورة أن تأتي في سياق الحدث الدرامي ، عابقة بالتعبير عنه.
ولكنه في نشيد تحية العلم ، قدم وفي ثوانٍ معدودات ، ثلاثة أمزجة للتعبير الدرامي ، متباعدة تماماً!

لنستعرض النص:

أيها الخفاق فى مسرى الهواء أنت رمز المجد عنوان الولاء
نفتدي بالروح ما ظللته ونحيي فيك روح الشهداء
خضرةٌ تبعث في النفس الأمل
وهلالٌ ليس يطويه الأجل
أيها الخفاق في مسرى الهواء نحن من حوليك راعٍ وأمين
أنت رمز المجد عنوان الولاء دمت في الآفاق وضاح الجبين

تغيرات اللحن المفاجئة

عبق البيت الأول بالمعاني الحماسية ، وقد أتى لحنها وأداؤها من قبل عبد الوهاب ملائماً ، في جمل لحنية حماسية ، أتت على مقام العجم بصورته الغربية ( ماجور ). وفيما تستمر أجواء الحماس ، في تعابير عبد الوهاب ، وفي اللحن والأداء ، على طول الشطرة الأولى من البيت الثاني ، عند : نفتدي بالروح ، مع الاستمرار في الأجواء ذاتها ، عند بداية الشطرة الثانية ، عند : ” ونحيي فيك ” ، فإننا نجد تغيراً مفاجئاً في ملامح عبد الوهاب ، عند ورود جملة : روح الشهداء ، في نهاية البيت الثاني ، مع انحناءة في الرأس ، تدل على الاحترام لروح الشهداء ، والحزن بسبب رحيلهم ، فيما يتخافض اللحن عندها ، أيضاً ، للتعبير عن هذه الانحناءة ، مع انتقال مقامي آني وسريع ، ليس من السهل تحديده ، عند : روح الشهداء  ، وعلى طول لحنها ، إلى مقام النكريز ، الذي يجمع هنا بين الاحترام ، والحزن على الشهداء ، من خلال جنس النوأثر ، المتضمن لعناصر الحزن ، في البعد الصوتي ، الممتد لدرجة صوتية ونصف الدرجة ، والاحترام ، في استقراره على درجة الاستقرار ذاتها لمقام العجم ، فيما لو كان استخدم جنس الحجاز ، الذي يحتوي البعد الصوتي الممتد ذاته ، مع اختلافٍ في درجة الاستقرار ، لسيطرت العاطفة ، و لما برز الاحترام ، ولو استخدم مقام الصبا ، الذي يحتوي البعد الصوتي الممتد ذاته ، مع اختلافٍ في درجة الاستقرار ، لبرزت صورة الحزن!

التعبير عن الأمل!

ولمّا كان البيت التالي يعطي ، و مباشرة ، مضامين مختلفة ، عابقة بالأمل هذه المرة ، في الحديث عن لون العلم الأخضر ، عند : خضرةٌ تبعث في النفس الأمل ، فإننا نجد اللحن سرعان ما يتمايل ، معبراً عن الأمل ، وقد بني على مقام الراست الأصيل ، المعبر عن الارتباط بالأرض ، مع تغيرٍ في مظهر عبد الوهاب ، وقد ارتاحت ملامحه ، وارتسمت ابتسامة على وجهه ، و تغير ملائمٍ في أسلوب أدائه ، فيما نفهم أكثر ، دقة اختيار عبد الوهاب لمقام النكريز ، في البيت السابق ، عند كلمة الشهداء ، إذ أنه يعتبر ، عادة ، من الجسور المقامية ، الملائمة للانتقال إلى مقام الراست ، ما يبين دقة التخطيط اللحني عند عبد الوهاب ، في دمج عناصر التعبير مع قواعد التلحين ، في يسر واضح!

ولكن ملامح التعبير ، سرعان ما تستعيد أجواء الحماس ، مع العودة المباشرة إلى مقام العجم ( ماجور ) ، في البيت قبل الأخير ، عند: أيها الخفاق ، حتى الختام.

عشرون ثانية من التعبير المكثف!

لو حددنا عدد الثواني ، التي اجتاز خلالها عبد الوهاب ، مراحل التعبير المتلاحقة ، لحناً : في الجمل اللحنية والتغيرات المقامية ، وأداءاً : في نبرة الصوت وجرعة العاطفة ، وصورةً ، وفي إطار ما رسمه المخرج محمد كريم : ارتفاعُ الرأس عند الحماس ، و انحناءةُ الجسم للتعبير عن الاحترام والحزن ، والابتسام عندما يغلب التفاؤل والأمل ، فإننا نجد أن عبد الوهاب ، قد انتقل في 20 ثانية ، من الحماس ، إلى الاحترام والحزن ، إلى التفاؤل الأمل ، عائداً إلى الحماس ، في 20 ثانية فقط!


هذا هو عبد الوهاب ، الذي غادرنا ، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس!

د. سعد الله آغا القلعة

 

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading