قصيدة العبرة لصباح فخري : التعبير في اللحن والأداء عن ومضة وجدانية توقف عندها الزمن!

شعار كتاب الأغاني الثاني

أتوقف اليوم عند قصيدة العبرة ، التي غناها الأستاذ صباح ، من كلمات الشاعر حسام الدين الخطيب ، و الملحن الكبير بكري كردي ، في الستينات من القرن الماضي.

تروي القصيدة ما دار في ذهن الشاعر ، في لحظة توقف عندها الزمن ، إذ طفرت فيها دمعته ، أمام فراقٍ قادم. إنها إذاً ومضة وجدانية ، امتدت لثانية أو أكثر ، لعلها كانت تحمل الأمل في تغيير المواقف ، قبل أن تذوي تلك الدمعة على تراب الأرض ، فتجف ، كما يجف قلب المحب!

يعود سبب اختياري لهذه القصيدة ،  إلى رغبتي في إبراز أبعادٍ أخرى في أداء الأستاذ صباح . لقد عُرف صباح فخري دائماً على أنه الناشر الأول للتراث الموسيقي العربي ، ولولاه ، ولولا الأسلوب الجديد الذي اعتمده في أدائه ، لما كان لهذا التراث أن ينتشر في مختلف أصقاع العالم العربي والعالم كما انتشر. هذه القصيدة ليست من التراث الموسيقي القديم ، بل هي لحنٌ جديد ومعاصر ، لم يعتمد التطريب ، بل اعتمد التعبير ، ولم يقصد استعراض قدرات المطرب الصوتية ، في القفلات المتلاحقة الأصوات ، و في المساحة الصوتية ، إذ لم يمتد اللحن لأكثر من 10 أصوات موسيقية ، وهي مساحة صوتية متواضعة ، بالنسبة لقدرات الأستاذ صباح ، بقدر ماقصد إبراز قدرات الأستاذ صباح التعبيرية الفائقة ، أما الشاعر فلم تسيطر على نصه معاني الغزل المتداولة ، بل توقف عند دمعة المحب في لحظة فراق!

الأغنية 

تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية ، تحدد مقامها الموسيقي وهو مقام النهاوند ، كما تحدد أجواء القصيدة ، فيما سنلاحظ وجود مقدمة موسيقية ، تمهد لكل بيت من أبيات القصيدة ، محولة إياه إلى مشهد مستقل .

اعتمد الملحن قواعد تلحين القصائد ، وفق ما رأينا في قصيدة يا نسيم الدجى ، من حيث وجود جملة لحنية خاصة ، لكل بيت من أبيات القصيدة ، تمتد على طوله ، تبدأ مع بدايته وتنتهي بنهايته ، في توافق مباشر مع ما ساد في الشعر العربي التقليدي ، من ضرورة اكتمال الفكرة الشعرية في بيت واحد، ضمن القصيدة متغيرة الأفكار والصور الشعرية ، واعتبار ما خالف ذلك ، من توظيف أكثرَ من بيتٍ لإكمال الفكرة الشعرية ، ضعفاً لدى الشاعر.
تستوجب القاعدة ذاتُها ، أن تمتد الجملة اللحنية للبيت الأول على امتداد البيت دون أي توقف ، و أن يستقر اللحن فيه ، على درجة استقرار المقام الرئيسي، لإبرازه وتحديده ، وهذا ماحصل.

وعلى خلاف ما ورد في بعض ألحان القصائد ، في تكرار الكلمة الأولى من البيت ، وفق ما يلجأ إليه الشعراء أحياناً ، أثناء إلقاء قصائدهم ، وذلك ، و كما رأينا في تكرار كلمة ” تٌرى ” ، مثلاً ، في قصيدة ” في عينيك عنواني ” ، لسمية قيصر ، من ألحان عبد الوهاب والموجي ، أو كلمة ” عيناكِ ” في قصيدة “عيناكِ ” لخالد الشيخ ، نجد أن الملحن قد اعتمد هنا أسلوباً نادراً ، في تكرار الكلمة الأخيرة ، هذه المرة ، الواردة في ختام كل بيت من أبياتها ، وهي الكلمة التي تحدد ، كل مرة ، صفة من صفات الحبيبة الغادرة ، الغانية ، اللاهية ، النابية ، الجافية ، الغاوية ، السالية ، في تأكيدٍ في النص واللحن عليها.

أتت بداية لحن البيت الثاني ، على الدرجة الصوتية ذاتها ، التي بدأ بها لحن البيت الأول ، في جسر لحني ، قبل أن يبدأ في إجراء تفاعلٍ للحن البيت الأول ، يتطور باتجاه الأصوات الأحدّ ، مع البدء بإدخال عناصر التجديد ، من حيث إمكانية أن تتوقف الجملة اللحنية ، عند نهاية الشطرة الأولى من البيت ، لتتقاطع معها الموسيقى ، وذلك عند : هل رأت عيناك في ذراتها ، على عكس البيت الأول ، عندما امتدت الجملة اللحنية على كامل البيت دون أي توقف. أؤكد على التعبير عن التحسر في تخافض اللحن عند جملة ” حسرى طافية “.

أتوقف عند لحن جملة ” سقوطاً في الثرى ” ، في البيت الثالث ، حيث يتخافض اللحن للتعبير عن التحسر ، وعن السقوط ، يسبقه تصاعد تعبيري عن الإباء ، لكلمة ” تأبى ” ، كما أتوقف عند تكرار كلمة ” فانظري ” ، متقاطعة مع الموسيقى ، للتأكيد على أهمية المعنى.

تتحول مقدمة البيت الرابع الموسيقية ، إلى مقام البيات العاطفي الشجي ، مع تحول المعاني إلى وصف العواطف الدفينة ، ابتداءاً من ختام البيت السابق ، عند كلمة ” لاهية ” ، مع تصاعدٍ في اللحن ، وزيادة درجة توتره ، تدريجياً ، وصولاً إلى ذروة ، قبيل اختتام القصيدة ، في توافق مع قواعد التلحين العامة.

يبرز هنا تغير أداء الأستاذ صباح ، من التحسر المغلف لأداء الأبيات الأولى ، إلى إبراز البعد العاطفي ، كما أتوقف عند لحن ” تلفظها ” المتخافض ، في دورات لحنية متلاحقة ، وكأنها الدمعة تسقط عندما تلفظها العين ، وهي تدور في الفراغ قبل أن تهوي إلى الأرض ، وتذوي ، وتجف!

في البيت التالي ، وعند ” إن عيناً ” ، ينتقل اللحن إلى مقام النكريز ، ليحدد حكمة القصيدة ، متحولاً تدريجياً نحو مقام النهاوند ، عند ” وفؤاداً ” ، في لحن عاطفي معبر.

أداء الأستاذ صباح فخري

جاء أداء الأستاذ صباح معبراً تماماً عن المعاني ، في تبدلها ، ما أبرز قدراتٍ صوتية وتعبيرية مكثفة ، قد لا توفر أغاني التراث المجال لإبرازها ، فقد حفل النص بالتبدلات العاطفية ، في كثافة نادرة ، عندما دار حول ضمن ومضة وجدانية ، امتدت لثانية أو أكثر .. لعلها كانت تحمل الأمل في تغيير المواقف ، قبل أن تذوي دمعة المحب ، على تراب الأرض فتجف ، معلنة ذلك الفراق الأبدي!

التسجيل المرفق تم مع فرقة الفجر الموسيقية بقيادة الأخ الأستاذ أمين الخياط وبمرافقة الأخ العزيز الراحل أسعد الشاطر على العود.

نص القصيدة

هذه العبرة هل تدرين ما وقعُها في محجري يا غانية يا غانية
هل رأت عيناك في ذراتها حبّة المهجة حسرى طافية يا سالية
إنَّها تأبى سقوطاً في الثرى فانظري كيف استقرّت نامية يا لاهية

هذه اللؤلؤة البيضاء ليست سوى قلبي استوى في الآنية يا غاوية
أترى تلفظها العين وكيف تُرى تلفظها مجافية يا جافية

إن عيناً ليس فيها عبرةٌ من جنى الوجد لعينٌ ساهية يا ساهية
وفؤاداً لم يُذبه الحُبُّ لا يدركُ العيشةَ إلا نابية يا نابية

هذه العبرة هل تدرين ما وقعُها في محجري يا غانية يا غانية

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading