ليالي عاشق الروح : عندما رد عبد الوهاب على موسيقى حبيب العمر في  مشهد ودّع الممثل الأشهر وكان الأغلى في تاريخ السينما العربية!

شعار كتاب الأغاني الثاني

المشهد الذي أعرض له اليوم نادرٌ تماماً في السينما العربية ، إذ يظهر فيه كلٌ من يوسف وهبي ومحمد عبد الوهاب بشخصيته الحقيقية ، وليس كممثل ، كما يضم المشهد أحد أهم أعمال عبد الوهاب الغنائية : ليالي عاشق الروح ، الذي نتوقف عنده بالتحليل ، إذ أنه يأتي في قلب الحدث ، الذي يولِّده المشهد!

في عام 1949 كان أنور وجدي ، ذي الأصول السورية ، قد أصبح أحد أهم شخصيات السينما في مصر ، إذ كان ممثلاً لامعاً ، ومنتجاً ثرياً ، وكاتباً درامياً ، و مخرجاً مشهوراً. كان أنور يحلم في أن ينتج فيلماً يكون فيه هو المخرج ، ويكون فيه يوسف وهبي ، الممثل والمخرج الشهير ، ممثلاً يعمل تحت إدارته.  في الوقت ذاته كان عبد الوهاب قد ابتعد عن السينما ، منذ آخر أفلامه ” لست ملاكاً ، عام 1946 ، فيما كان فريد الأطرش مستمراً في سيطرته على عالم السينما الغنائية ، منذ فيلم ” حبيب العمر ” عام 1946 ، الذي ظهر فيه لأول مرة في السينما العربية ، مع أوركسترا ضخمة ، شاركته في أداء أغنيته ” حبيب العمر ” التي سمي الفيلم باسمها ، في تطويرٍ لحجم الفرقة التي كانت شاركته في أداء أوبريت ” انتصار الشباب ” مع أسمهان ، ما كان يحرض عند عبد الوهاب ، الكثير من الحماس ، للرد من خلال تقديم عمل غنائي جديد،  تتوفر له إمكانات إشراك أوركسترا ضخمة ، مكلفة إنتاجياً!

كتب أنور وجدي قصة فيلمه الجديد ” غزل البنات ” ، واختار لبطولته زوجته ليلى مراد  ، و نجيب الريحاني ، جاره في الإقامة ، و الممثل الأشهر في مصر. جرى التفاوض مع يوسف وهبي ، فقبل أن يمثل في مشهدٍ يصور في يوم واحد ، ويدفع له أنور وجدي مقابله ألف جنيه ، كما اقتنع عبد الوهاب ،  بالظهور  في الفيلم ، في أغنية تلخص مقولته  ،  وتأتي في ختامه ، بعد أن أمَّن له أنور وجدي الميزانية اللازمة ،  لتشاركه فرقة أوركسترا كاملة ، مع كورال ، بحيث وصل العدد الإجمالي للمشاركين ، إلى حوالي 90 شخصاً .

تم إنجاز المشهد ، وقبل عرض الفيلم ، رحل نجيب الريحاني عن هذه الدنيا ، في 8 حزيران / يونيو 1949 ، في حدث بدا ، وكأنه استمرارٌ للفيلم ، ففي المشهد الأخير الذي سنتابعه ، يخرج مضحياً بحبه لإسعاد حبيبته ، فاقداً الأمل في الحياة!
عُرض الفيلم لاول مرة فى 22 سبتمبر/ أيلول  1949 ، وسط اقبال هائل من الجماهير ، إذ كان لرحيل نجيب الريحاني قبل العرض بأشهر ، إضافة إلى ظهور يوسف وهبي وعبد الوهاب فيه ، الأثر البالغ في نجاحٍ أكبر للفيلم ، في حدثٍ يشبه حدث غرق أسمهان ، وعرض فيلم ” غرام وانتقام ” بعد وفاتها..

بني المشهد على سوء تفاهم ، إذ يظن نجيب الريحاني ، ” الأستاذ حمام ” في الفيلم ، أن ليلى مراد  تحبه ، ليكتشف أنها تحب أنور وجدي ، وتأتي أغنية عبد الوهاب التي نظمها حسين السيد لتقول : عشق الروح مالوش آخر ،  لكن عشق الجسد فاني! وعند استماعه للأغنية يدرك الريحاني ” الأستاذ حمام ” انه يجب ان يضحى بحبه لليلى ، لكي تُسعد في حياتها ..

الأغنية :

قدمت الأغنية في إطار باذخ ، بمشاركة فرقة موسيقية كبيرة ، حفلت يآلات موسيقية غير مألوفة بالنسبة للمشاهد العربي ، كالماندولين والبالالايكا والفلوت ،  فيما ظهر عبد الوهاب مع آلة غريبة أيضاً : الجمبش ، وحتى الآن ، من غير المفهوم أهمية وجود آلة الجمبش ، طالما أن عبد الوهاب لايعزف  عليهاعملياً ، ولا تتحرك أصابعه لتوليد اللحن! كما أنه من غير المفهوم سبب ظهور صورة الملك فاروق في الخلفية!

جاءت المقدمة الموسيقية مترابطة تماماً مع المقاطع الغنائية ، إذ تبدأ بآلات الترومبيت ،  في لحن  على مقام النهاوند ، سيرد لاحقاً في الغناء ، متفاعلاً ومطوراً ، عند :  يا عيوني حبايبي ليه هجروني .. ليه يناموا وإنت تصحي ياعيوني.. ليه ليه! ،  لتعزف آلات الماندولين والبالالايكا اللحن الأساسي ، الذي سيرد لاحقاً عند ليه ليه ليه ليه، ياعين ليلي طال ـ ليه ليه ليه ليه، ياعيني دمعي سال .. ليكرر الكورال اللحن ذاته مع الآهات ، ليكرر عبد الوهاب اللحن أخيراً .. غناءاً ، فيستقر في أذهان المشاهدين! يقود عبد الوهاب الأوركسترا ، مؤشراً بيده اليمنى فقط ، لأن يده اليسرى مشغولة بحمل آلة غريبة ، ستظهر عند بدء الغناء ، وهي آلة الجمبش ، كما أسلفت.

من اللافت هنا ، أن جملة ليه ليه اللحنية ، تأتي متخافضة للتعبير عن السؤال في البداية ،  ثم متصاعدة للتعبير عن الاستنكار ، وهذا تعبير لحني دقيق تماماً عن المعاني.

في المقاطع الموسيقية التالية ، يوظف عبد الوهاب آلة الكلارينيت ، في حوار مع آلات الكمان . يمكن التوقف عند المسافات الموسيقية الكبيرة ، التي ترد عند : تسبَّح في الفضا شاغل شغلني ، للتعبير عن الفضاء ، فيما يهدأ اللحن عند : ضحيت هنايا فداها وح عيش على ذكراها ، حيث تركز الكاميرا على نجيب الريحاني ، لإبراز تأثير المعاني عليه .

عند ورود كلمة الليل في ” زي الضحى والليل ” ،  يتوقف عبد الوهاب ، ليؤديها على أسلوب الموال ، وفق ما كان قد أرساه في أغانيه ، منذ قصيدة الجندول ،  إذ يأتي الموال فيها ، لمقولة شخصية ، عند : أنا من ضيّع في الأوهام عمره ، وفي قصيدة الكرنك ، أيضاً لمقولة شخصية ، عند : أنا هيمان ، ثم يعتمد توظيف كلمة الليل لأداء الموال ، كما في قصيدة كليوبترة ، عند : ليلُنا خمرُ ، ولاحقاً في بفكر في اللي ناسيني ، عند : مدام الليل ما لوش آخر، وفي ” كل ده كان ليه ” عند : نسّاني أنام الليل ، وحتى في لحنه لأم كلثوم : إنت عمري ، جاء الموال عند : الليالي الحلوة ، وذلك وفق أسلوب كان أرساه الشيخ سلامة حجازي ، في اعتماد الموال عند ورود كلمة الليل في القصيدة ، كما أثبتُّ في برنامجي التلفزيوني : عبد الوهاب مرآة عصره ، وهو الأسلوب الذي استقاه الشيخ سلامة من حلب ، حيث يبتدئ المطرب ارتجالاته ، بالتغني بكلمة ياليل ، قبل الدخول في القصيدة المرتجلة غنائياً ، ، بينما يُبتدأ بكلمة : أمان ، عند الارتجالات المبنية على الموال المكتوب باللهجة العامية.

بعد الموال ، يؤدي الكورال اللحن المتكرر ،  وتدخل آلة جديدة الحوار ، وهي مجموعة آلات التشيللو ، وتتبعها مجموعة آلات الفلوت.

يمكن التوقف أيضاً ، لتحليل الجملة اللحنية المغناة عند : وكل ده وانت مش داري يا نسيني ونا جنبك ، إذ تأتي على مقام  نهاوند على درجة الصول ، مع إبراز حسّاسه : الفا دييز ، ولكنها تحفل بتوقفات تعبيرية متكررة ، على درجة المي بيمول ، في تحسر ظاهر ، فيما تتوقف الصورة عند نجيب الرحياني وهو بجانب ليلى مراد الدموع في عينيه ..

يختتم عبد الوهاب الأغنية على أسلوب الموال عند : وعشق الروح مالوش اخر لكن عشق الجسد فاني  ، الذي يقدم عادة للمقولة الشخصية ، أو عند ورود كلمة الليل ، كما أسلفت ، ولكنه يرد عادة أيضاً للتعبير عن حكمة ، حيث يتصاعد اللحن عند عشق الروح ، في فيض عاطفي ،  ليتخافض في حسرة واضحة عند : عشق الجسد فاني ، في تعبير درامي واضح ، لتعود الفرقة إلى اللحن  المتكرر وتختتم الأغنية.

حققت هذه الاغنية ، التي كتب نصها حسين السيد ، تطويراً لدور الأغنية السينمائية ،  إذ أنها كانت ذروة الفيلم ، والمعبرة عن رسالته الأساسية ، ويمكن اعتبارها من أهم الأغاني التي حفلت بالتعبير الدرامي المتكامل ، مع المشهدية السينمائية.


يشار إلى أن عبد الوهاب ، تأثر في لحن عاشق الروح عند : ليه ليه ليه ياعين ليل طال – ليه ليه ياعين دمعي سال .. بجملة لحنية وردت في فيلم A Thousand and One  ، وهو من إنتاج 1945 و قد وردت تلك الجملة اللحنية في أغنية  no more women , not for me !  التأثر كان في إيقاعية الجملة ، وبعض من ملامحها اللحنية ، ولم يكن نقلاً مباشراً لها . لكل من يرغب في المقارنة :

نص الأغنية

ليه ليه ليه ليه، ياعين ليلي طال ـ ليه ليه ليه ليه، ياعيني دمعي سال
ياعيوني حبايبي ليه هجروني ـ ليه يناموا وانت تصحي ياعيوني.. ليه ليه!
ياليل عيني اشتكيت ـ من طول سهادي ياليل
وكام من فجر صحيته ـ وصحاني على عهودي
وحتى العين في غفلتها ـ بتصحى دموعها في خدودي
تسبح في الفضا شاغل ـ شغلني عن حطب عودي
وهبت وجودي علشانه ـ وعمري ماعشت لوجودي
ضحيت هنايا فداه ـ وحاعيش على ذكراه
هايم على دنياه ـ زي الضحى والليل
وكل ده وانت مش داري ـ ياناسيني وانا جنبك
حاولت كتير ابوح واشكي ـ واقرب شكوتي منك
ولقيتك في السما عالي ـ وانا في الارض مش طايلك
حضنت الشكوى في قلبي ـ وفطمت الروح على بابك
عشقت الحب في معبد ـ بنيته بروحي وكياني
وخليت الامل راهب ـ مالوش عندي امل تاني
أنور شمعتي لغيري ـ ونارها كاويه أحضاني
وابيع روحي فدا روحي ـ وانا راضي بحرماني
وعشق الروح مالوش اخر ـ لكن عشق الجسد فاني

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.