قصيدة لقاء لعبد الحليم : تجاوزت النجومية الأولى و أسست لشخصية غنائية مستقبلية سترافقه طويلاً !

شعار كتاب الأغاني الثاني

أنهي هذه الجولة في فضاء أغاني عبد الحليم حافظ التي غابت عنها الشهرة ، مع قصيدة لقاء ، التي حملت لحن كمال الطويل الأول لعبد الحليم ، وفق ما قاله كمال الطويل في حديث إذاعي .. وأنا أتوقف عندها ، رغم أنها معروفة نسبياً ، لأنني أرى أنها أسست لتشكيل ملامح الشخصية الغنائية والموسيقية عند عبد الحليم ، على الأقل من منظور كمال الطويل ، إضافة إلى أنني رأيت ضرورة عرض تحليل موسيقي مفصل لهذه الأغنية ، لما لها من أهمية ، كما أرى ، في تشكيل ذائقة موسيقية جديدة عند جمهور جديد سيصبح جمهور عبد الحليم .. مع الاعتذار مسبقاً ، لأنني مضطر ، للأمانة التاريخية ، أمام ذكرى كمال الطويل ، أن أوظِّف بعض المصطلحات الموسيقية ، التي قد لا يتآلف معها الجميع ، ولكنها ضرورية لإبراز مكامن الإبداع في اللحن!

تحليل القصيدة
تبدأ المقدمة الموسيقية بلحن مرسل معبر على مقام الكرد ، تسيطر فيه آلات الكمان ، مع امتدادات صوتية مضمخة بالعاطفة ، توحي بنضوج موسيقي واضح ، لتدخل آلة التشيللو مباشرة في لحنها المعبر عن الرجل ، الذي يتذكر اللقاء ، ثم تكرر الموسيقى لحنه كالصدى ، الذي يغلف الذكريات ، لتدخل آلة الكمان ، التي تمثل المرأة ، في حوار مع الفرقة ، يشكل صدى تلك في الذكريات ، ويبني فكرة اللقاء بين حبيبين ، إلى أن يتهادى اللحن ، في جلال ، يعبر عن جملة ” جلال الموكب ” التي تنهي البيت الثاني من المشهد الأول من القصيدة .

المشهد الأول
هذا الأسلوب التعبيري موسيقياً ، سرعان ما يجد صداه ، في لمحات تعبيرية واضحة ، في لحن الغناء أيضاً ، ومنها مثلاً : تخافض اللحن عند جملة ” النور يخبو حولنا “، فيما نلحظ عند ” دمعنا ينطق ” جملة لحنية ، ستتكرر لاحقاً في ألحان الطويل لعبد الحليم ، كالبصمة . نلحظ أيضاً عند ” آه لو تدرين ما أكتمه في دمي ” ، أن اللحن يمر على درجات صوتية لا ترتبط بالمقام الموسيقي ، بل تخرج عنه ، لإشاعة جو من التوتر اللحني ، ليعود اللحن إلى استقرار المقام ، في الختام عند ” واحة المغترب ” ليريح المستمع ، ويعبِّر عن الواحة التي يرتاح المغترب إليها.
وهنا لابد من إيفاء صلاح عبد الصبور حقه أيضاً ، بتحليل عابر للمحات إبداعية في نص المشهد الأول ، ولو أنني عادة أترك هذا للمختصين من الأدباء ، إذ لخص عبد الصبور بشكل بديع ، مرور الزمن كلمح البصر في اللقاء ، في تضاد بين جملتين متتاليتين : ” وشهدنا النور يخبو حولنا ” ، ثم ” وانتبهنا فتبعنا ظلنا ” وكأنما اللقاء الذي دام ، منذ أن بدأ نور الشمس يخبو ، إلى أن أشرقت الشمس وتشكل الظل ، عبر كلمح البصر!

المشهد الثاني
يأتي المشهد التالي في مقدمة إيقاعية حماسية ، على مقام الكرد ( على الري ) أيضاً ، تعبر عن فيض العواطف، وقد أتت ذكرى ذلك اللقاء إلى الأذهان ، لينتقل اللحن عند “كانت الذكرى عزائي زمنا ” إلى مقام كرد أثر ( على الري أيضاً ) ، وهو مقام غير مريح ، نسبة لمقام الكرد العاطفي ، في تعبير عن حالة جديدة : العزاء ، لينتقل عند ” يوم فارقتُ مجالي لمحاتك ” إلى مقام الحجاز الأكثر عاطفيةً ، على درجة الري، للتعبير عن ألم الفراق ، وهنا تفصيل موسيقي لابد من ذكره للتاريخ ، وهو أن كمال الطويل لعب هنا لعبة مقامية موسيقية نادرة ، هي جوهر مدرسة كمال الطويل ، فانتقل من مقام كرد أثر على الري ، الذي يتضمن في درجاته الصوتية : فا عادية وصول دييز، إلى مقام الحجاز مباشرة على درجة الري ، الذي يتضمن في درجاته الصوتية : صول عادية وفا دييز ، أي عكس الدرجات الصوتية في مقام الكرد أثر ، في تعبير مقامي مباشر عن تضاد العواطف ، بين الذكرى والفراق ، وفي تمهيد للانتقال إلى مقام الهزام عند ” كنت إن راجع قلبي الشجنا ” ، الذي وفر عند كلمة الشجنا ، درجة صوتية ( فا دييز للموسيقيين ) ، يتوقف عندها اللحن في حسرة واضحة !
تجدر الإشارة إلى أن عبد الحليم ينفذ هذا الانتقالات بصوته مباشرة ، ما يؤكد أنه اختزن هذه المقامات في خلايا وجدانه الموسيقي !
أتوقف أيضاً عند تصاعد اللحن المعبرعند جملة ” نور سماتك ” للتعبير عن النور ، كما ألحظ أن كل مشهد من المشهدين الثاني والثالث ، سينتهي بجملة لحنية مكررة عند ” والدجى يغمر وجه المغرب” كانت قد وردت في نهاية البيت الأول ، في تأكيد على أهمية هذه الجملة في معاني القصيدة ، إذ أنها كانت لحظة اللقاء!

المشهد الثالث
أتى هذا المشهد على مقام الهزام أيضاً ، مع تطوير اللحن ، ليرتفع إلى الطبقات الموسيقية الحادة نسبياً ، للتعبير عن فيض العاطفة عند اللقاء ، وعن الإقرار بأبدية المكانة التي تحتلها الحبيبة في الوجدان!
نعم .. لقد كانت هذه القصيدة هامة جداً .. صحيح أنها لم تبنِ جماهيرية عبد الحليم الأولى ، ولكنها أسست لشخصية غنائية رافقته طويلاً !
نص القصيدة:

بعد عامين التقينا ها هنا * و الدُجى يغمر وجه المغرب
وشهدنا النور يخبو حولنا * فسبحنا فى جلال الموكب
وانتبهنا فتبعنا ظلنا * دمعنا ينطق واللفظ أبي
آه لو تدرين ما أكتمه في دمي * يا واحة المغترب

كانت الذكرى عزائي زمنا * يوم فارقتُ مجالي لمحاتك
كنت إن راجَع قلبي الشجنا * أتعزّى بليالي ذكرياتك
وتعللت بفجر قد دنا *يُطلع الشمس على نور سِماتك
ثم هنا نحن التقينا ها هنا *والدجى يغمر وجه المغرب

لست أنساك غراماً في دمي *ومنى عمري وآمالَ غدي
وصباحَ النعمةِ المبتسم *وشعاع الفتنة المتقد
يا مناري في الطريق المظلم *يا غرامي خالداً للأبد
في عيوني فرحة مشرقة *والدجى يغمر وجه المغرب

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.