أغنية ظالم لعبد الحليم حافظ : أغنية تجريبية من البدايات اقترب فيها الموجي من أجواء عبد الوهاب و ركز على أجواء فريد الأطرش في بحث عن شخصية غنائية جديدة لعبد الحليم تختلف عن السائد وتقترب من الناجح وتستبعد ما لا يلائم!

شعار كتاب الأغاني الثاني

مقدمة:

تعتبر البدايات فترة مفصلية في حياة كل مبدع ، إذ تلفت إليه الأنظار ، وتضعه في دائرة الضوء ، أو تحكم عليه بالغياب! ولذا فإن من الأهمية بمكان ، أن يتركز تحليل مسار أي فنان ، على بداياته!

وفي هذا السياق ، فقد سبق سبق أن بينتُ في نشرة سابقة ، في موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، خلال تحليلي لبدايات عبد الحليم حافظ ،  أن أغنية الأصيل الذهبي ، من ألحان عبد الحميد توفيق زكي ، وغناء عبد الحليم حافظ ، شكلت الحدود القصوى التي ذهب إليها الغناء العربي ، في تمثُله لأجواء الأعمال الأوركسترالية ! الأغنية جميلة ، وهي في بعدها التعبيري تلائم عبد الحليم ، ولكنها في بعدها الصوتي ، لم تكن ملائمة له ، إذ يغلب على مميزات أدائه التعبير ، على حساب الامتدادات الصوتية ، والمساحات الواسعة ، التي تستلزمها الأعمال الأوبرالية .
الأغنية التي أنشرها اليوم : ظالم ، من كلمات سمير محجوب وألحان محمد الموجي ، مع إخراج لها وضعتُه كالعادة من مشاهد لمصر في بداية الخمسينات ، وهي الفترة الزمنية التي نشرت فيها الأغنية . الأغنية ، كما أراها ، تجريبية ، تلوَّنَ فيها أداء عبد الحليم المعبر دائماً ، بين الأداء الذي تابعناه في أغنية الأصيل الذهبي ، في البداية ، ثم تموَّجَ ليتوافق مع لحن الموجي الذي جال على الشخصية التلحينية عند محمد عبد الوهاب أولاً ، ثم عند فريد الأطرش ، الذي تبرز شخصيته التلحينية بوضوح كالشمس ، في لحن الموجي للقسم الأخير من الأغنية ، وبين كلِّ هذا ، نجد لمحات من الشخصية الغنائية التي سيستقر عليها عبد الحليم ..

أولاً : متابعة الأغنية ويليها التحليل


ثانياً: التحليل

المقدمة الموسيقية
البداية مع العود والنقرة الواثقة ، تؤكد أن الهدف هو العودة إلى الصورة الشرقية للغناء ، مع إكساب تلك الصورة الثقة بالقدرة على التعبير ، وفعلاً سرعان ما تدخل المقدمة الموسيقية في حوار ذي طبيعة ديناميكية مع الفرقة الموسيقية ، يتلون في جملة موسيقية تتكرر بين مقام العجم المعبر عن القوة و مقام النوا أثر الذي سيعبر عن العاطفة ، وهذه الجملة الموسيقية ستتكرر مرات عديدة في المقدمة الموسيقية وكأنما يعبر الموجي بهذا التلوُّن بين مقامي العجم والنوا أثر عن عاطفتين مسيطرتين على النص : الظالم الذي يشتكي عن غير حق ، والمظلوم الذي أضاع شبابه في انتظار..

بعد ديناميكية الحوار ، سرعان ما يدخل الإيقاع ، لإكساب المقدمة حيوية مطلوبة في ذلك العصر ، مع تكرار تلك الجملة اللحنية المعبرة عن تلون العواطف وصولاً إلى تهدئة تلك الجملة اللحنية لكي يبدأ الغناء.

الغناء في المشهد الأول : 

النص

ظالم وكمان رايح تشكي لأ دا انت كان حقك تبكي
الــهنا من يوم ما هويتك مـــاعرفتلوش معنى
والحب يا ريت يوم ما رأيتك يا ريت ما جمّعنا
كان هوايا كله انت كان منايا برضه انت
فضلت أخبي عنك عذابي فضلت أوهب لك في شبابي
وكل ده علشان ترضى بي وبرضه كمان رايح تشكي
لألألأ دا انت كان حقك تبكي

تحفل البداية عند : ظالم وكمان رايح تشكي لأ دا انت كان حقك تبكي بالامتدادات الصوتية التي تابعناها في أغنية الأصيل الذهبي مع الأوركسترا ، مع قفلة شرقية ، قدر المستطاع . الجمل اللحنية تدمج بين مقامي العجم في القسم الأعلى و مقام النهاوند في القسم الأخفض في تشكيل لمقام موسيقي غير معهود يجمع جنسي النهاوند والعجم!

الإيقاع يبدأ مع البيت التالي : الــهنا من يوم ما هويتك مـــاعرفتلوش معنى ، وهنا تبرز ملامح شخصية الغنائية عبد الحليم الجديدة على امتداد ثلاثة أبيات من النص. يسيطر هنا مقام الكرد مع توقفات يتخافض فيها اللحن للتعبير عن التحسر.

المجموعة التالية من الأبيات ستشكل لحناً يتكرر في ختامات المشاهد . تبدأ هذه المجموعة عند البيت التالي : فضلت أخبي عنك عذابي فضلت أوهب لك في شبابي ، حيث تتداخل ملامح مدرسة عبد الوهاب ، مع مدرسة الموجي الناهضة. البيت التالي ( وكل ده ) ينتهي بتوقف متحسر يلوح فيه طيف مقام اللامي عند : وبرضه انت كمان رايح تشكي ! ليتوقف الإيقاع عند : لأ دا انت كان حقك تبكي ،  لختام المشهد مع سعي لإبراز التهكم في الجملة اللحنية  ، لم يوفق عبد الحليم في إظهاره!

المشهد التالي

النص:

راح فين غرامي اللي بنيته و صنته في قلبي
كله انطوى والا نسيته والا دا ذنبي
خنت حبي ليه يا قاسي فت قلبي فين يا ناسي
فضلت أخبي عنك عذابي وفضلت أوهبك في شبابي
وكل دا علشان ترضى بي و برضه كمان رايح تشكي
لأ لأ لأ دا انت كان حقك تبكي

في المشهد التالي عند : راح فين غرامي اللي بنيته و صنته في قلبي ، نشهد بروزاً لدور الموسيقى ، في حوار ديناميكي مع الأداء الغنائي ، يغيب فيه الإيقاع ، حيث تعبر الموسيقى عن دفق العاطفة المتذكَّرة ، مع امتدادت صوتية مجدداً ، يبرز فيها التحسر ، و بروز لدور القانون ، وهو من أساليب عبد الوهاب التي شهدناها منذ : يا دنيا يا غرامي ، ثم يتكرر الغناء على مقام البيات الشرقي ، لإبراز دفق العاطفة بأسلوب ثانٍ ، وهذا من عناصر مدرسة الموجي ، استمر معه حتى قارئة الفنجان.

يدخل الغناء عندئذٍ في : خنت قلبي ليه يا قاسي في لحن سيتكرر في المشهد الأخير ، عند:  إيه ح يجرى لما تعطف انسى مرة مرة وانصف ،  وكأنما خصص هذا اللحن المتكرر الخاص بهذين البيتين لإظهار أنهما متكاملان نصاً : العتاب ثم الاستعطاف! وهذا أسلوب يدل على تخطيط مسبق و مدروس للنص وتفاصيله.. ينتهي المشهد باللحن المتكرر عند : فضلت أخبي ..

المشهد الأخير

النص:

ايه ده اللي ح تقوله عليّ بعد دا كله
ويرضي مين ظُلمك لي مهما تقول له ؟
إيه ح يجرى لما تعطف انسى مرة مرة وانصف
فضلت أخبي عنك عذابي وفضلت أوهب لك في شبابي
كل ده علشان ترضى بي وبرضه كمان رايح تشكي
لألألأ دا انت كان حقك تبكي

سيطرت في المشهد الأخير شخصية فريد الأطرش التلحينية بوضوح وضوح الشمس ، ابتداءاً من المقدمة الموسيقية ، على مقام الحجاز ، ثم ابتداءً من : ايه ده اللي ح تقوله عليّ بعد دا كله ، على مقام الراست ، ليعود الغناء إلى اللحنين المتكررين ابتداءً  من : إيه ح يجرى لما تعطف انسى مرة مرة وانصف ، لتختتم الأغنية بهما.

وأخيراً..

نعم.. لقد كانت أغنية : ظالم أغنية تجريبيةً ، اعتمدت قالب المونولوج الرومنسي ، وجالت على شخصيتين تلحينيتين طاغيتين : محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ، مع تغليب في الوضوح لشخصية فريد في المشهد الأخير ، بغية البحث عن شخصية غنائية لعبد الحليم في بداياته ، تختلف عن السائد ، و تلائم صوته ، وتستبعد ما لا يلائمه .. وهو ما برز بوضوح في أغنية صافيني مرة .. ولهذا حديث آخر!

ملاحظة هامة:

كان متابعو هذه الصفحة وموقعي على الانترنت و أعضاء مجموعة أوج قد اختاروا هذه الأغنية في تصويت مقارن على أنها الأقرب إلى شخصية عبد الحليم الغنائية ، كما استقرت لاحقاً ، مقارنة مع أغانٍ أخرى.

د. سعد الله آغا القلعة

Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading