في عام 1932 غنت أسمهان ، وهي بعد في الرابعة عشرة من عمرها ، في سياق مجموعة أسطوانات ، سجلتها لصالح شركة كولومبيا ، و من ألحان محمد القصبجي، وكلمات يوسف بدروس ، المونولوج الرومنسي ” أسمـع البلبل يغني” .
من المفيد في البداية التذكير بأن أسطوانات أم كلثوم الأولى أتت عام 1924، و أن عمر أم كلثوم حينها كان يزيد عن عشرين عاماً ، ما يجعل مجموعة الأغاني التي سجلتها أسمهان عام 1932 ، وعمرها لا يزيد عن 14 عاماً ، حدثاً غير مسبوق.
أعتقد بالمقابل ، أن يوسف بدروس كتب نص هذه الأغنية ، موجها الكلام إلى أسمهان ، وقد كان معجباً بها دون أمل .. كما يمكن ، في السياق ذاته ، تطوير الهدف الذي رمى إليه محمد القصبجي عندما وضع لحن هذه الأغنية : أن تكون هذه الأغنية ، أولاً ، تدريباً لأسمهان ، على التنقل بين المقامات الموسيقية بنفسها ، في سياق أداء الأبيات ، دون تمهيد موسيقي ، وهي عملية صعبة على طفلة بعمرها ( 14 سنة ) ، صوتها لم يستقر بعد ، وكذلك على تنفيذ أسلوب أداء المونولوج ، المعتمد على الامتدادات الصوتية ، من جهة ، و على تنفيذ الأسلوب القديم ، المعتمد على ترجيف الصوت ، وعلى إبراز العُرب الصوتية ، التي تعبر عن المقامات الشرقية ، وعلى القفلات الصوتية المتدرجة في الهبوط بسرعة بشكل دقيق ، من جهة أخرى ، لتكون بالنتيجة ، وعند نشرها ، استعراضاً لقدرات أسمهان ، أمام الجمهور ، وأمام الملحنين الآخرين ، تشجيعاً لهم على التلحين لها ، رغم صغر سنها!
بالنتيجة ، أثبتت أسمهان ، في أداء هذا المونولوج ، قدرة واضحة على دمج أسلوبي الأداء الحديث والقديم ، و وظفت في أدائه مساحة صوتية واسعة من صوتها ، وصلت إلى 12 صوتاً موسيقياً ( بين درجتي الصول قرار والري جواب ) ، كما استطاعت أداء ” الهنك ” ، وهو من عناصر قالب الدور ، في حرفية لافتة . جاء ذلك ، كما سنرى لاحقاً عند مقطع : إحكي لي في الأغاني عطف قلبك واسمعيني ، عندما دمج لحن القصبجي بين قالبي المونولوج الرومنسي والدور ، مع توظيفٍ عابر للمذهبجية ” الكورس ” فيه ، فتمكنت من تنفيذ ما يتطلبه ذلك ، من ” إنطاقٍ ” دقيقٍ للعُرب الصوتية ، و من أداءٍ متقنٍ للقفلات التطريبية ، الشهيرة في عالم الغناء العربي التقليدي ، وهي لا تزال في سن مبكرة!
لنتابع الآن تحليل الأغنية الموسيقي مع الكلمات ، بغاية تتبع التغيرات المقامية التي حفل بها اللحن ، و أدتها أسمهان باقتدار لافت. طبعاً ليس الغرض أن أستعرض المقامات ، بقدر إبراز قدرة أسمهان على أدائها مباشرة ، وبدون تمهيد موسيقي!
ملاحظة للموسيقيين حول اعتماد مقام الجهاركاه كأساس لمقام الأغنية الموسيقي : الدرجات الموسيقية التي لحنت عليها الأغنية هي درجات مقام العجم على درجة الدو ، ولا تبرز حسّاس مقام الجهاركاه ، ولكن نظراً لأن اللحن يبدأ في العقد الأول ( حالة الجهاركاه ) وليس من الجواب ( حالة العجم ) ، إضافة إلى إبراز مقام الصبا في مسار اللحن ، فقد فضلت أن أعتمد مقام الجهاركاه كأساس له..
ملاحظة ثانية : نُسب اللحن أحياناً للملحن اللبناني فريد غصن ، وكان صديقاً لعائلة أسمهان وفريد في القاهرة ، ولكن شخصية القصبجي طاغية في اللحن!
[table id=23 /]
د. سعد الله آغا القلعة