في ذكرى رحيل الشاعر أحمد الجندي : طرحٌ علني لرأيه في موضوعٍ جدلي أمام مخالفيه في حفل تأبينه وعزفٌ بالقانون وفاءً لدَين!

شعار كتاب الأغاني الثاني

مشاركة في تأبين شاعر .. وموسيقي

الشاعر الراحل أحمد الجندي

الشاعر الراحل أحمد الجندي

أستذكر اليوم ، في الذكرى الحادية والثلاثين لرحيل الشاعر والفنان الأستاذ أحمد الجندي ، ما حصل في صبيحة ذلك اليوم من أيام شهر تموز / يوليو عام  1990 ، عندما رن جرس الهاتف في مكتبي الهندسي ، وكانت دعوة للمشاركة في حفل تأبين الشاعر الراحل ، والحديث عن الجانب الموسيقي في اهتماماته .. كان الشاعر الراحل قد غادرنا قبل أربعين يوماً ونيِّف .. وكان من الطبيعي أن يتداعى محبوه من المعنيين بالثقافة والفن إلى تأبينه بما يليق ..

وسرعان ما راحت بيَ الذكرى إليه.. كنا نتقاطع في مناسبات كثيرة ، نتبادل فيها الأحاديث حول الموسيقى العربية وشجونها .. ثم تأخذنا الأيام لنلتقي مجدداً.. وقد يبدو هذا غريباً لغير العارفين .. فما علاقة الشاعر الجندي بالموسيقى العربية ؟ صحيح أنه كان أحد ظرفاء الشام المعدودين ، وأنه عُرف بسرعة بديهيته وجوابه اللاذع .. وباختزانه لآلاف الأبيات من أمهات قصائد الشعر العربي .. إلا أنه كان ، فوق كل ذلك ، عازفاً بارعاً على العود ، و عارفاً بتفاصيل الموسيقى العربية .. كأغلب مثقفي جيله .. برز اهتمامه بالموسيقى العربية  للعلن عندما اهتم بالإذاعة ، وقدم عبرها العديد من البرامج الإذاعية الثقافية والأدبية والفنية ، التي حازت على إعجاب الجمهور ، ولكن هذا البعد ظهر أكثر ، عندما وضع كتاباً تناول فيه سِيَرَ كبار الموسيقى العربية أسماه : رواد النغم العربي ، تحدث فيه عن أبي خليل القباني وعبده الحمولي ومحمد عثمان وسيد درويش ، وصولاً إلى محمد القصبجي و أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم … ولكنه ضمَّنه أيضاً  ، وهذا مهم ، آراءه حول مسألة جدلية الطابع .. وهي العلاقة بين الموسيقى العربية والغربية..

علاقة جدلية بين الموسيقى العربية والغربية توترت مع الوقت

كانت العلاقة في أذهان الناس في سورية ، بين الموسيقى العربية والغربية ، طبيعية ، في فترة الاستقلال. لقد أدرك دعاة التنوير الأوائل أهميتها ، لإغناء معارف الناس الثقافية ، و لتوسيع مجالات تذوقهم لمعايير ذات مسالك جمالية مختلفة .. يؤكد هذا ، مثلاً ، ما تابعناه  في نشرة سابقة ،  عندما توقفتُ عند سهرة بقيت في ذاكرتي ، احتفى فيها المعهد  الموسيقي في حلب بنجمي السكري ، بمناسبته عودته ناجحاً ظافراً من فرنسا ، بحضور شيوخ الفن الحلبي .. فالتنوير ، في تلك الفترة ، لم يكن يجد تعارضاً بين المسارين ..

ولما جاءت بداية الستينات مع ولادة التلفزيون ، كان هناك تركيز إعلامي على الموسيقى العربية ، من خلال برنامج تلفزيوني شيق ، كان يخرجه الأخ والصديق الأستاذ جميل ولاية  ، و كان يشارك فيه أجمل الأصوات وأقدرها ، ابتداءً من الأساتذة صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ماهر ، وكذلك السيدات مها الجابري وسحر .. ، وصولاً إلى الأساتذة الموسيقيين والملحنين : عزيز غنام وعمر النقشبندي مثلاً ، و الفرقتين الموسيقيتين بقيادة الأستاذين سليم سروة و أمين الخياط .. كما كانت تقدم برامج تعنى بتقديم الموسيقى الكلاسيكية الغربية في الإذاعة..

الجديد: استلام دارسي الموسيقى الكلاسيكية الغربية لوظائف عليا في إدارة شؤون الموسيقى

في سياق موازٍ ومتباعد ، و مع عودة بعض دارسي الموسيقى الكلاسيكية من دراسات تخصصية في أوربا ، واستلامهم لوظائف عليا في إدارة شؤن الموسيقى ، بدأت العلاقة تشهد توتراً ، تصاعد أكثر في الثمانينات والتسعينات ، إذ  بدأت تُطرح علناً أسئلةٌ ، حول مدى أهمية الحفاظ على التراث الموسيقي ، بحجة إعاقته لعملية اللحاق بركب الحضارة العالمية!  في البداية كانت الأمور تُطرح بشكل صحي ، ثم  تحولت العلاقة بين المسارين ، مع الوقت ، لتصبح فوقية ، بين المثقفين المؤيدين ، في الغالب ، للموسيقى الغربية ، وهم أصحاب الأصوات المسموعة ، وبين جمهور الموسيقيين المتمسكين برصيد الموسيقى العربية الضخم .. وجمهورها الواسع ..

الوفاء يقتضي الدقة .. و سداد الدَيْن

في خضم كل هذا أتتني تلك الدعوة .. و سرعان ما أبعدت عن ذهني حديثاً تقليدياً ، عن مهارة الشاعر الراحل في العزف على العود ، وعن تعلقه بالموسيقى كما الشعر. لقد رأيت أن من الوفاء له التذكير بآرائه الموسيقية ، رغم أنها لن تكون متوافقة مع آراء كبار الحاضرين المتوقعين ، من المعنيين بإدارة شؤون الثقافة والفن.. والداعمين لفكرة تفوق الموسيقى الغربية وضرورة اعتمادها!
كما كان علي أن أتدبر أمراً يخصني أنا وعلاقتي بالراحل العزيز ..!

آلة القانون تحضر في حفل تأبين!

اصطحبت آلة القانون معي .. في سابقة غير معهودة في الأجواء التأبينية .. وعندما جاء دوري في الكلام ، وكان في الموقع قبل الأخير ، الذي حُفظ كالعادة لأهل الفقيد ، حيث كان من المقرر أن تلقي ابنة الشاعر كلمة الأسرة الأخيرة ، خاطبتُ روح الشاعر الراحل ،  أمام جمعٍ غفير من محبيه ، ومن كبار المعنيين بالثقافة والفن ، بعد مقدمة عاطفية بينت فيها مدى تعلقه بالموسيقى العربية وجمالياتها ، وإتقانه لمسالكها  ، قائلاً :

أتذكَّرُ اليومَ نقاشاتنا المطولة حول الموسيقى العربية ، التي كنت تسميها الموسيقى الشرقية ، وفق اصطلاحات جيلك .. وعلاقتها بالموسيقى الغربية .. وأتذكر تماماً آراءك في هذا المجال ..خاصة عندما كنت تقول:

من الخير كل الخير ان تكون هناك موسيقى غربية و شرقية تتبادلان الفن والإنتاج . إن موسيقانا موسيقى طرب ولذة ، وموسيقى الغرب موسيقى فكر وإتقان ، الشرقي يجن طرباً ويصيح وجداً ، والغربي يتأمل ويفهم وينتظر الساعة حتى تنتهي السمفونية ، ليصفق إعجاباً بالنظام والإتقان ، وشتان بين الجانبين وبعيد ما بين الطرفين : الموسيقي العبقري عندنا عليه أن يأخذ موسيقى الغرب فيتمثلها ، ثم يأخذ موسيقى الشرق فيتمثلها ، ثم يمزج الجانبين مزجاً روحياً ، على أن يخرج من هذا المزج موسيقى جديدة غير الإثنتين .. أما هذا الترقيع الذي نراه باسم التجديد ، وهذا التقليد الذي يخز الأذن ويوقر السمع والفؤاد فلا قيمة له ولا وزن ، إنه تخليط سرعان ما يزول أثره وينعدم خبره.
بعد ما تقدم نستطيع القول أن المجددين عندنا ، إما هم جماعة ذهبوا إلى الغرب فتعلموا الموسيقى الغربية واعتادوا السماع إليها ، ولم يكونوا قبل ذلك على اتصال وثيق بالموسيقى الشرقية ، فلما عادوا إلى الشرق حملوا معهم موسيقاهم ، وحملوا على موسيقى الشرق ، اعتياداً منهم على الأولى ، وجهلاً بالثانية ، فرأيهم والحال هذه ، رأي وحيد الطرف ، معدوم الفائدة والنتيجة..الخير هو في الذين درسوا موسيقى الشرق واعتادوا علها حتى طربوا لها ، ثم ذهبوا إلى ديار الغرب فدرسوا موسيقاه واستطاعوا التوصل إلى الإحساس بها إحساساً صادقاً .. هؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون الإدلاء برأي صائب في الموضوع..

لتخلص إلى القول :

للموسيقى الشرقية مكان في العالم ، و للموسيقى الغربية مكان آخر ، وقد تتجاوران أو تتباعدان ، ولكن من الغبن الفادح أن تقضي إحداهما على الأخرى..

وتابعت : طبعاً أنا لست هنا لأقول ما لم تقله .. لأن كل هذا مكتوب في الصفحتين السابعة عشرة والثامنة عشرة من كتابك ” رواد النغم العربي”..لمن يريد التأكد ..  وكأنما كنت تريد أن تبدأ كتابك بتثبيت موقفك من الجدل الدائر حول هذه القضية الشائكة..

وماذا عن وعد الحر؟

بعد فترة صمت أطلتها لكي تستقر الأفكار ، وتهدأ النفوس ، بعد طرح مسألة كانت تشغل المتابعين لأمور الثقافة ، وشرح موقف الشاعر الراحل منها بصدق ووضوح .. انتقلت إلى موضوع آخر قائلاً : وفي سياق نقاشاتنا.. ولكن في صلب جماليات الموسيقى العربية هذه المرة ..  هل تتذكر كيف كنا نناقش أساليب كل من سيد درويش ومحمد عبد الوهاب المجددَين في التعامل مع التراث بأساليب جديدة .. هل تذكر كيف قادنا النقاش لنتوقف مرة عند دور ” في شرع مين ” لسيد درويش ، ومرة عند  موال ” اللي راح راح ” لعبد الوهاب ، وهما على مقام الزنجران .. و كيف توقفنا عند طريقة تناول كل من عبد الوهاب وسيد درويش لهذا المقام .. نسبة لأسلوب الشيخ زكريا أحمد في أغنية يا حلاوة الدنيا وهي أيضاً على ذات  المقام  ؟ لقد قلتَ لي يومها…. كلي أمل أن أستمع منك يوماً ما إلى تقاسيم على مقام الزنجران ، لأعرف كيف أنت تتناول هذا المقام  .. وقلتُ لك وقتها :  قريباً إن شاء الله.. ثم .. وفي كل مرة كنا نتقاطع فيها .. كنت تقول لي بلهجتك المحببة :  متى ستفي بوعدك وتسمعني مقام الزنجران ؟ فأكرر الوعد .. إلى أن جاء قضاء الله المحتوم .. ورحلتَ عنّا .. وبقي لك هذا الدين في عنقي..
وبما أن وعد الحر دين .. وبما أن روحك لاشك علمت بأننا سنجتمع اليوم لتأبينك ، ما يجعلها تحيط بنا الآن .. وترقبنا ، فإنها فرصتي الأخيرة للوفاء بوعدي .. ولذا .. فلقد أتيت بالقانون معي .. لأفيَ بالوعد ..  أمامك .. ولك فقط ..

عندما حلُّ السكون..

تناولت القانون وتابعت: سأسمعك تناولي لمقام الزنجران .. ولكنني لن أبدأ به..  بل بمقام آخر ..  وبما أن الحاضرين لا يعرفون الموسيقى العربية ولا تفاصيلها .. فهي فرصتي لكي أختار اللحظة التي سأدخل فيها إلى مقام الزنجران ، في انسيابية لا يمكن أن ينتبه إليها إلا أنت ، العارف بهذا المقام وغيره .. فهذا الوعد لك وليس لغيرك ..
وانطلقت في عزفٍ ارتجالي على القانون ، تجاور فيه التطريب الهادئ الذي كان الشاعر يحب ، مع التعبير الذي تتطلبه المناسبة ، وبعد دقائق دخلت في مقام الزنجران ، و استعرضته كما أراه .. لأنتهي منه في تصاعد لحني رقيق ومتدرج ومتخافت حتى السكون ، مثلما يسكن الجسد وقد غادرته الروح متصاعدة نحو الأعلى!

انسحبت  .. و كان السكون يخيم على الجميع .. بعد هنيهة .. جاءت ابنة الشاعر الراحل .. الدكتورة غصون .. دامعة العينين .. بدأت كلمتها .. وتوقفت إذ تهدج صوتها .. ثم عاودت .. ثم توقفت .. كان إحساسها لايزال طاغياً بروح والدها الحاضرة الغائبة.. وأخيراً .. اختصرت كلمتها شاكرة الجميع وانسحبت .. أما أنا فقد خرجت متأثراً .. و راضياً ، إذ وفيت بوعد  لم يكن لي أن أفيَه .. إلا في  فرصة كانت الأخيرة .. للأبد !

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.