على الجسور بين العلوم والفنون : ليلة احتفاء عاصمة الموشحات والقدود والطرب بموسيقى الغرب!

شعار كتاب الأغاني الثاني

لا .. لم تكن ليلة عادية تلك التي عشتها في عام 1958 ، و أنا أحضر الحفلة التي أقامها والدي في ساحة المعهد الموسيقي بحلب ، احتفاءً بنجاح نجمي السكري وعودته من فرنسا ، بحسبانه من طلاب المعهد ، ودعا إليها نخبة حلب من المثقفين والأدباء .. لا زلت  أذكر أنني كنت متفاجئاً ، وأنا أرى أساتذة المعهد ، من شيوخ الموسيقى العربية ، ينتظرون عازفاً قادماً من باريس  ليحتفوا به ! بالنسبة لي ، وأنا أدرس العزف على القانون ، كانت الموسيقى العربية ودقائقها وسحرها تعني لي كل شيء.. كنت أحضر حفلات المعهد التي تقدم فيها مقطوعات من الموسيقى الغربية .. ولكنها لم تكن تجذبني ..  كانت تلك الليلة مناسبة لي لأكتشف كم أن الموسيقى الغربية ساحرة أيضاً … ولكنها كانت مناسبة لأكتشف أيضاً كم كان عالم الموسيقى العربية في حلب منفتحاً على الغرب .. ثم لأكتشف لاحقاً كم كان عالم الموسيقى الغربية في بلادنا العربية نابذاً لها!!

كان الجميع ينتظر وصول نجمي وأستاذه ميشيل بوريزنكو أستاذ آلة الكمان في المعهد ..  و كان أرنست شوحا الأنيق الرزين الرصين ، أستاذ البيانو في المعهد ، أول القادمين .. ثم جاء ميشيل بوريزنكو ..

كان ميشيل بوريزنكو روسياً أبيض ، درس الموسيقى في روسيا على عازف الكمان الروسي الشهير ليوبولد أوير . اختار بوريزنكو مدينة حلب منذ بداية العشرينات للإقامة فيها ، بعد الثورة البلشفية في روسيا. دعاه والدي ، عندما أسس المعهد الموسيقي بحلب عام  1946 ، لتدريس العزف على آلة الكمان على الأسلوب الكلاسيكي الغربي فيه ، بغية تطوير تقنيات العزف عند عازفي الكمان الشرقي ، استناداً إلى الأساليب المعتمدة في الموسيقى الغربية  .. وتم استقدام نسخ مطبوعة منها وتوزيعها على الطلاب.

بالنسبة لي كنت أعرف الأستاذ بوريزنكو .. كان كثيراً ما يلاطفني بلغته الحلبية الطريفة ، الحافلة بالأخطاء النحوية .. وكنت آنس إليه ، فهو مبتسم دوماً ، إلا عندما يخطئ طالب في العزف أثناء الدروس ،  فيعلوا صوته لتهتز جدران المعهد على اتساعه .. ولكنني لم أكن أعرف نجمي هذا .. في تلك الليلة كنت سأتعرف عليه لأول مرة.. وكعادتي في الاستفسار عن كل شيء ،  استطعت أن أجمع نتفاً من أجوبة من هنا وهناك على أسئلتي عنه ، ما سمح لي بتشكيل صورة أولية عنه ، مكنتني من توقع أسباب إقامة والدي للحفل على شرفه..  استطعت استكمال تلك الصورة  لاحقاً من شقيقه الأصغر حلمي .. الذي زاملته في كلية الهندسة في حلب بعد سنوات ..

ميشيل بوريزنكو مع نجمي وضياء السكري في حلب

ميشيل بوريزنكو مع نجمي وضياء السكري في حلب

فهمت أن نجمي  كان في التاسعة عشر من عمره في تلك الليلة .. و أن له شقيقاً أكبر ، يكبره بعام واحد اسمه ضياء .. وأن والدهما لطفي السكري ، كان موظفاً في مديرية المالية بحلب ، وعازفاً على آلة الكمان .. علَّم طفليه ضياء ونجمي العزف عليها  منذ طفولتهما ، ثم دفع بهما في عام 1946 ، مع قيام والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة بافتتاح المعهد الموسيقي لأول مرة ، إلى ميشيل بوريزنكو ، لمزيد من الإتقان في العزف على الكمان .. و بعد سنتين بدءا بإقامة حفلات في حلب ، وهما طفلان في التاسعة والعاشرة من العمر .. ثم كانت حفلتهما عام 1950 مفاجئة للجميع ، إذ عزفا سوية مقطوعات لكبار المؤلفين الموسيقيين الأوربيين ، وتميز فيها نجمي بشكل خاص .. تخيلته يعزف في تلك الليلة وعمره حوالي 11 سنة  ، فيما كنت أولد في تلك السنة .. وأثار هذا في نفسي العديد من الأسئلة عن توازٍ محتمل بين مسار نجمي ومساري في الموسيقى ، أنا الذي  واجهت الجمهور ، منذ كنت في الخامسة من العمر .. المهم .. علمت أن عمل والدهما انتقل إلى دمشق في عام 1951 .. وهناك قدما حفلات في معهد الموسـيقى الشرقي ، ثم في نادي الضباط ، بحضور رئيس الأركان العامة في الجيش آنذاك العقيد أديب الشيشكلي ، ما أدى إلى إيفادهما في شهر تشرين الأول 1951  لمتابعة دراسة الموسيقى في المعهد العالي للموسيقى في باريس ، بقرار استثنائي رئاسي لصغر سنهما… لاحقاً توقفت وأنا أتذكر هذا مع حادثة مماثلة .. عندما عينت بقرار استثنائي من وزير الثقافة عام 1967 للتدريس في المعهد الموسيقي بحلب .. وكان القرار استثنائياً ،  لأنني كنت لا أزال في السابعة عشر من عمري! و لهذا حديث آخر..

فهمت أن نجمي درس العزف على الكمان في باريس ، و أن ضياء درس قيادة الأوركسترا .. و أن الحفل في المعهد تلك الليلة ، كان بمناسبة تخرج نجمي أستاذاً لآلة الكمان من المعهد العالي للموسيقى في باريس .. كان وقع اسم باريس عندي لامعاً .. هل سأدرس فيها يوماً .. ؟ استبعدت الفكرة إذ أنه ليس من المعقول أن أدرس فيها العزف على القانون ! ولكن الأقدار كانت ستحقق ذلك الحلم .. ليس عن طريق الموسيقى ، ولكن عن طريق الهندسة!


لنعد إلى حفلة تلك الليلة .. بالنسبة لي كانت هذه المناسبة لا تبرر دعوة والدي كل هذه الباقة من شخصيات حلب .. وكانت نقطة غير مفهومة .. على الأقل حتى تلك اللحظة .. عزف نجمي في تلك الليلة ، بمرافقة عازف البيانو المبدع أرنست شوحا ، أستاذ البيانو في المعهد .. ولا أزال حتى اليوم أتذكر عزف نجمي  الرائع ، وسرعته المبهرة في الأداء ، التي اجتذبت انتباهي .. فأنا في تلك السنوات من صباي ( عمري كان 8 سنوات ) لم أكن أتابع التعبير الموسيقي كثيراً .. بل كانت السرعة والتقنية العالية في الأداء هي الأهم .. كنت أهتم كثيراً بأداء أصعب اللونغات السريعة على القانون .. وكان عزف نجمي مفاجئاً..  لاأكتشف سرعات غير معهودة ، لم أشهدها لدى أي عازف على الكمان قبل ذلك .. وكان هذا محفزاً لي لمزيد من السرعة في الأداء .. كانت سرعتي تعد عالية نسبة لغيري .. ولكنها لم تصل إلى سرعة نجمي في تلك الليلة .. وكان علي أن أوازيها .. لا زلت أتذكر ذلك بوضوح ..

الفيديو التالي ، مقتطف من حفلة لنجمي في البرازيل ، مع أوركسترا سان باولو ، اخترت فيه ، مشهداً من أدائه لكونشيرتو الكمان لماندلسون ، لأخذ  فكرة عما دار في ذهني في تلك الليلة عن السرعة ..


سألتُ بعد الحفلة كعادتي في الاستفسار  .. أين سيعمل نجمي ؟ .. ولم يكن هناك أي جواب .. كان والدي مشغولاً ، فرحت أسأل من حولي .. كان الجميع ينظر لي باستغراب .. بعد حفلة رائعة .. لماذا تسأل .. ؟ لقد أوفد وعاد .. ونحن نحتفي به .. وانتهى الموضوع .. بالنسبة لي كانت  المشكلة أن من أوفده لم يعد موجوداً .. إذ أننا كنا نعيش أيام الوحدة مع مصر .. و توقعت أن يكون والدي قد قصد من الحفلة إثارة الموضوع أيضاً ..

علمت لاحقاً ،  أن أبا بكر خيرت ( عم الموسيقار المبدع عمر خيرت ) ، وهو مهندس معماري ، و مؤلف موسيقي معروف ، أسس المعهد العالي للموسيقى في مصر ( الكونسيرفاتوار ) ، وكان صديقاً لوالدي ، وزارنا في حلب ، توسط في القاهرة ، على الغالب بعد حديث مع والدي حول الموضوع ، لإعادة إيفاد نجمي إلى الاتحاد السوفياتي ، فأوفد إلى موسكو في العام التالي ، أي في عام 1959 ، لمتابعة دراسة الكمان ، حيث حاز على عدة جوائز عالمية. ولاحقاً تكررت القصة ، عندما عاد نجمي بعد انتهاء دراسته ،  لم يعرف أحد ماذا يقدم له ،  إذ لم يكن المعهد العالي للموسيقى قد أحدث ، ولا الفرقة السمفونية الوطنية. انتظر فترة ، ثم عاد إلى باريس ليستقر فيها ، و لا يزال!

أبو بكر خيرت في حلب ويظهر والدي إلى يسار الصورة و الأستاذ أبو بكر خيرت إلى يمينها فيما تبدو أختي المهندسة هزار إلى يمينه

لماذا قلت في بداية حديثي أن الموسيقى العربية في حلب انفتحت على الغرب ؟  أنا أعرف اليوم كم تأثر الملحنون العرب عموماً بأساليبها .. ولكن في تلك الأيام .. كانت تلك الحفلة بالنسبة لي شاهداً .. شيوخ الموسيقى العربية في المعهد احتفوا بنجمي السكري العازف العائد من باريس … احتفوا به كسوري مبدع .. واحتفوا بموسيقاه .. الغريبة .. تقديراً له ولها .. ولكنني ، وعلى طول مساري مع الموسيقى العربية ، كنت كثيراً ما أتوقف عند حالة معاكسة .. التعالي .. الذي كان ولا يزال يتعامل به محبو الموسيقى الغربية والداعون لها مع الموسيقى العربية .. بعد أن اختلفت موازين القوى مع الوقت! وهو ما أثرته علناً ..  في مناسبات عديدة .. بعد أن توفرت لي المنابر .. ومنها ما جرى في حفل تأبين الشاعر الراحل أحمد الجندي .. ولهذا أيضاً حديث آخر!

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.