رحلتي على الجسور بين العلوم والفنون – 1

سألني .. لماذا ركَّزتَ منذ بداية التسعينات ، وإلى جانب عملك في مجالات متعددة ، شملت التدريس في الجامعة ، و تقديم البرامج التلفزيونية ، وإدارة مكتبك الهندسي ، و ملف السياحة السورية ، على سبيل المثال لا الحصر ، على الموسيقى ، وعلى موسوعة كتاب الأغاني الثاني؟ وكيف تقاطعت وتفاعلت في ذهنك كل هذه المجالات؟

قلت : هذا حديث شرحه يطول .. إذ اجتمعت في سبيل ذلك أسباب كثيرة .. لعل من أهمها أن تقاطعي مع الموسيقى كان أسبق من المجالات الأخرى العلمية جميعها ، فأنت تعلم أنني بدأت تعلم الموسيقى في سن الرابعة ، أي قبل أن أذهب إلى المدرسة ، مستفيداً من أن والدي الدكتور فؤاد رجائي آغا القلعة كان مدير المعهد الموسيقي بحلب وصاحبه .. كانت هذه هي السمة التي طبعت مساري في مواجهة الحياة .. الموسيقى ركيزة أولى.. والعلم ركيزة ثانية .. كما كانت طبعت مسار والدي : طبيب الاسنان و الباحث في تاريخ  الموشحات الأندلسية ومدير إذاعة حلب ومعهدها الموسيقي في آن ..

وفي الواقع ، كثيراً ما أسهمت الأدوات العلمية في أن أفهم تفاصيل الموسيقى بشكل أعمق ، فيما أسهمت الموسيقى بالمقابل في تحديد مساري العلمي ،  إذ أن أحد أساتذتي في فرنسا ، في مرحلة ما قبل الدكتوراه  ، طلب مني ، وقد حضر إحدى محاضراتي الموسيقية التي كانت عن علاقة التصوف بالموسيقى ،  مرفقة بارتجالات على القانون  بنت اللحظة ، أن أعمل معه على حل مشكلة هندسية  لم يجد لها حلاً على مدى سنين ، لتكون موضوع بحثي للدكتوراه ،  إذ انتبه إلى أن شخصاً قادماً من ثقافة مختلفة ، ليست مقيدة تماماً بأسلوب التفكير العقلاني المجرد ، بل تعتمد الحدس ، قد يكون قادراً على مقاربة هذه المشكلة بأسلوب مختلف ، وهكذا كان ، لتترسخ في مساري في الحياة  تفاعلات الفن والعلم ، ولأدرك مع الوقت ،  أن المنطق الذي يحكم الأشياء واحد ، في إطار وحدة الخلق ، فإن كان واضحاً في أحد هذين المجالين ،  فإنه سيسمح بفهم أعمق للمجال الآخر!

لنعد إلى الموسيقى : في المعهد الموسيقي تعلمت على مدى السنين أصول الموسيقى و تفاصيل المقامات والأوزان ، كما اختزنتها حلب ، مركز الإشعاع الموسيقي العربي على مدى العصور الوسيطة و حتى نهاية القرن التاسع عشر ..

المهم .. مع الوقت ، وبعد أن تعلمت القراءة ، بدأت أتعرف على مكتبة والدي ، الحافلة بكتب الموسيقى والطب .. وكان من الطبيعي أن تجتذبني كتب الموسيقى .. كان بينها مؤلفات كثيرة مرتبة بشكل متجاور في المكتبة للدكتور محمود أحمد الحفني ، الذي كان مدير المعهد الموسيقي في القاهرة ، وقد جذبني إليه كونه يشغل نفس المهام التي كانت لوالدي في إدارة المعهد الموسيقي .. ولاحقاً كان محور أحاديث طويلة بيني وبين ابنته الدكتورة رتيبة الحفني رحمها الله وقد جمعتنا صداقة طويلة .. اجتذبني أولاً كتابه عن سيد درويش .. إذ كثيراً ما سمعت جوقة المعهد تؤدي موشحاتٍ وأدواراً من ألحانه…. وسررت كثيراً عندما علمت بأنه أقام في حلب لسنوات .. ثم انتقلت إلى كتب أخرى للمؤلف ذاته .. كانت عن شخصيات لم أسمع بها .. .. زرياب الذي عرفت من الكتاب أنه كان الأول في نقل عناصر الموسيقى العربية من الشرق إلى الأندلس .. ثم اسحاق الموصلي .. الذي كان الأول في ضبط المقامات الموسيقية و تصنيف الألحان العربية في العصر العباسي .. وعندما قرأت الكتاب الأخير .. كان يستوقفني كثيراً ذكر المؤلف لكتاب محدد : كتاب الأغاني للأصفهاني .. فأتذكر أنني رأيته في مكتبة الوالد الموسيقية .. وأنني كنت أرقب مجلداته متهيباً .. 24 مجلداً مرصوفاً بطبعة أنيقة .. كيف أخوض غمارها وأنا لا أزال صبياً..

وفي يوم من الأيام .. وبعد قراءات أخرى كان منها كتاب المستشرق البريطاني هنري فارمر : تاريخ الموسيقى العربية ، الذي اعتمد مجدداً على كتاب الأغاني في مادته .. كان لابد من أن أمد يدي لأتناول المجلد الأول .. وهكذا بدأت رحلة طويلة مع هذا الكتاب .. الذي أثار في ذهني أسئلة لم تكن لتحل إلا عبر الأدوات العلمية ! وللحديث بقية..

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading