العاصفة لفريد غصن : عندما يهتاج العزف فيتجاوز المساحة الصوتية المعتادة للعود في نقر متزامن ومذهل على أوتاره جميعها تعبيراً عن عاصفة!

شعار كتاب الأغاني الثاني

في منتصف القرن الماضي سيطرت على أذهان الموسيقيين الكبار فكرة فتح مجالات جديدة أمامهم .. فبعد أن كان دورهم منحصراً في مرافقة المطربين وأداء مقدماتٍ ولوازمَ موسيقية بسيطة للأغاني  ، وضمنها ، وبعد ملاحظة التطور الحاصل في مساعي الملحنين للتعبير عن المعاني ، اتجهوا إلى سبر أغوار إمكانات التعبير الموسيقي المباشر ..

تابعنا هذا في نشرتين سابقتين في موسوعة كتاب الأغاني الثاني ، عندما صوَّر أمير الكمان سامي الشوا الريحَ في ” أعرابي في الصحراء ” ، وصوَّر أمير البزق محمد عبد الكريم الشيطانَ وتراقصه في ” رقصة الشيطان “. أعرض فيما يلي تصوير العاصفة ، كما جاء عند فريد غصن.

فريد غصن

ولد فريد غصن ( الياس نعمة الله شلالا ) في كسروان – لبنان ، ويقال في الإسكندرية ، عام 1912 . تعلم العود على والده، وسافر مع أهله صغيراً إلى الأرجنتين ، فأقام هناك لسنوات ، قبل أن يسافر وأهله مجدداً إلى مصر للاستقرار فيها.
درس أصول الموسيقى بفرعيها الشرقي والغربي ، و امتلك ثقافة موسيقية عالية . بدأ حياته العمليه فى الفن عازفا على العود في فرقة أمير الكمان سامي الشوا ، كما عمل مع فرقة فوزي الجزايرلي ، و فرقة الشيخ أمين حسنين .
عمل رئيساً لفرقة بديعة مصابني ، و عازفاً على العود في فرقتها الاستعراضية ، التي كانت تحتاج إلى الأجواء الراقصة في الألحان العربية ، فاستفاد من معرفته بالإيقاعات الراقصة الأرجنتينية الشهيرة أثناء إقامته هناك ، مكوناً مع فريد الأطرش ، وعازف العود جورج ميشيل ، ثلاثياً شهيراً.
أطلق عليه مدحت عاصم ، رئيس قسم الموسيقى في الإذاعة المصرية ، والذي كان من دعاة التأثر بموسيقى الغرب ، لقب « نابغة العود » ، ملاحظاً تأثره في عزفه على العود بإقامته في الأرجنتين ، حيث ينتشر أسلوب العزف على الجيتار الإسباني ، وسعيه إلى تصوير الأجواء المختلفة ، مثلما فعل في معزوفته على العود « العاصفة » ، حيث صور بريشته وأوتاره هيجان العاصفة ، ثم هدوءها ، مع تركيز كبير في عزفه ، على الطبقات الصوتية الحادة التي أهملها عازفو العود.
عاد فريد غصن إلى بيروت في أواخر الخمسينات، حيث عمل موسيقياً في الإذاعة اللبنانية ، كما درّس الغناء وعزف العود في االمعهد الوطني العالي للموسيقى (الكونسرفتوار). وضع أسلوباً حديثاً لتعليم العزف على الة العود ، و كان من تلامذته ، الفنانون مرسيل خليفة، جورج تابت، سمير يزبك، وجورج روفايل ..
أقام عدة حفلات موسيقية على مسرح “ويست هول” في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث كان يعزف منفرداً على عوده ، الألحان الشرقية والغربية ، كما أصدر قبل رحيله كتاباً شرح فيه الطريقة الحديثة للعزف على العود.
عانى من المرض طويلاً في منزله، قبل أن يتوفاه الله في بيروت في 1 أيلول / سبتميرعام 1985 .
جرى تكريم فريد غصن بعد وفاته ، في أيار من العام 1999 ، بمناسبة إنعقاد المؤتمر الخامس عشر للمجمع العربي للموسيقى ، في جامعة الروح القدس في الكسليك قرب بيروت ، حيث عزف الفنان مرسيل خليفة بالمناسبة ، مقطوعة موسيقية من تأليفه ، بعنوان « غرناطة – إلى أستاذي فريد غصن ».

العاصفة
بنى فريد غصن مؤلفه الموسيقي : العاصفة ، على جملة لحنية صادمة ، تعتمد الأصوات الموسيقية المتتالية ، التي تتباعد بنصف درجة صوتية فيما بينها ( يسمى هذا الأسلوب : الكروماتيك ) ، وتقع في منطقة الأصوات العريضة ، اعتبرها فريد غصن المعبِّرَ عن قرب قدوم العاصفة ، وعن عودتها!
بدأ العزف بهذه الجملة ، التي كانت للتحذير من اقتراب العاصفة ، ثم عاد إلى تصوير الحالة العامة السائدة والوادعة ، لتعود النقرات المعبرة عن العاصفة ، مع ازديادٍ في سرعة تلاحق النقرات ، لتعبر عن اقتراب العاصفة أكثر ، لينتقل إلى إدماج تطور الحالة الوادعة وتداخلها مع العاصفة ، في حوار متوتر بينهما ، يصور وصولها ، حيث تتطور الجملة اللحنية المعبرة عن العاصفة ، لتمتد مساحتها على طول المساحة الصوتية للعود ، وصولاً إلى منطقة الأصوات الحادة ، التي يبتعد عنها العازفون لصعوبة العزف فيها ، وخاصة لما تتطلبه من انتقال سريع على الوتر الأخير ، في مواضع يصعب التحكم فيها ، مع هيجان العزف ، في نقر متزامن على أوتار العود ، يتطلب تسارعاً مذهلاً لنقرات الريشة ، بغية توليد الأجواء المعبرة عن عاصفة ، تتداخل فيها عناصر الطبيعة ، في أقسى صور عنفوانها ، ليصل بالتالي إلى أقصى حدود المساحة الصوتية للعود ، قبل أن يعود لتصوير انحسار العاصفة وهدوئها ، وعودة الحياة إلى طبيعتها ، مع التذكير بالعاصفة ، قبيل الختام ، وكأنه إنذار بأنها قد تعود ، وذلك في نقرات أخيرة ..

تعرفنا اليوم على فريد غصن ، عازفاً على العود ، أما ألحانه لأم كلثوم وأسمهان ونور الهدى ، و آخرين في قائمة طويلة ، فلها حديث آخر..

 

د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.