نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة والمفتوحة – تطوير الأساس المقامي للموسيقى العربية

 

 

شعار كتاب الأغاني الثانيبحثٌ قُدِّم من قبل الدكتور سعد الله آغا القلعة إلى المؤتمر الدولي للموسيقى العربية المنعقد في القاهرة بين 23 – 28 تشرين الثاني / نوفمبر 1992 ضمن محور : الرؤى المستقبلية للموسيقا العربية ، واعتُمد ضمن توصياته النهائية.

تم نشر البحث في المجلد الثاني لعام 2003 من مجلة البحث الموسيقي التي يصدرها المجمع العربي للموسيقى – الصفحة 105  

العُرب في آلة القانون التي تمكن العازف من تعديل المقام الموسيقي حسب بناء اللحن

مقدمة:

اتسمت قراءات المؤلفين الموسيقيين العرب لتطوير الموسيقا العربية ، بسمة الاعتماد على أساليب الموسيقا الغربية الكلاسيكية ، بحيث أصبح الناتج الموسيقي العربي في غالب الأحيان ، ومع استثناء بعض المحاولات الجادة، عبارة عن توليفة من جمل لحنية شرقية ،معالجة بتلك الأساليب، بغية إضفاء مسحة من المعاصرة عليها .لقد أصبح تحقيق الحداثة في الموسيقا العربية يقاس بمدى التقارب مع تراث الغرب ، دون النظر إلى الاختلافات الجوهرية في الأسس ، بين موسيقانا وموسيقاهم.

لو نظرنا إلى بناء الموسيقا العربية نظرة متفحصة ، لتبين لنا أن الأساس المقامي للموسيقا العربية استند ، منذ مدة طويلة ، إلى إمكانات الصوت المؤدي ، فالأصوات الموسيقية المشكلة لمسار أي مقام موسيقي لا تغطي من المساحة الصوتية إلا اثني عشر صوتاً موسيقياً هي حدود إمكانات الصوت المتداول، مما يحد بالتالي من الإمكانات الصوتية الواسعة المتوفرة في الآلات الموسيقية ومن إمكانات المؤلف الموسيقي في سعيه للتعبير عن واقعه وعصره.

البحث التالي يسعى لوضع نظرية جديدة ، تفتح أمام المؤلف الموسيقي العربي آفاقاً واسعة لتحقيق طموحه في التعبير عن عصره ،وذلك عبر تطوير الأساس المقامي للموسيقا العربية ، بحيث يكون ذلك مبنياً على خصائص حكمت مسار تطور الموسيقا العربية ذاتها ، منذ القدم وحتى الآن ، وعلى لمحات تجريبية وردت في ألحان كبار المبدعين في عالم الموسيقى العربية.

الحداثة وتطور مفهومها في الموسيقا العربية:

لو تفحصنا مسيرة تطور أي فن من الفنون الإنسانية، فإْننا نجد أن ذلك التطور ارتبط دوماً بعوامل عديدة ، لعل من أهمها تحقيق التواصل بين المبدع والمتلقي ،عبر مجموعة من المفاهيم والأصول والقواعد المتفق عليها بينهما كأساس للعملية الإبداعية. وهكذا كانت الصنعة الملخصة لهذه الأسس ، بعد الفطرة، أساس كل فن عالم.

ولكن هذه الأسس لم تكن أبداً ثابتة مع تغير الأحوال والأزمان ، فقد كان لكل شعاع جديد نافذ فاعل في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية دوره الهام في دفع طموح الفنان إلى التجريب لخلق أعمال فنية جديدة، قادرة على التعبير عن الواقع الجديد ، أو عن انعكاساته الداخلية في أحاسيس الفنان وعواطفه ، إضافة إلى الحالة التي يكون فيها تحريض التجريب غاية بحد ذاته، لإرضاء الطموح إلى التغيير،أو إرضاء الذات،وهذه حالة إنسانية حقيقية.

وقد يبدع الفنان الباحث عن التعبير ضمن الأصول والقواعد ، فنطلق عليه لقب الفنان الأصيل ، المحقق للتواصل مع جمهوره، مع أننا لو دققنا لوجدنا أن أعماله تخفي في ثناياها توقاً إلى التجديد، وقد يبدع دون تمسك بتلك الأصول ، وخاصة إن لم يكن قد تعمق في الصنعة الموروثة، فنطلق عليه اعتباطاً لقب الفنان المجدد، مع أنه يكون قد قطع الصلة مع مجتمعه، عندما ألبس نتاجه لبوس الآخرين، مما أوصله بالضرورة إلى فقدان الصلة مع المتلقي. الغاية المثلى في رأيي تكمن في تحقيق الحداثة المقبولة من المجتمع، استناداً إلى تحقيق الحد الأدنى من التواصل مع المتلقي، عبر المزاوجة بين صنعة الأمس وأشعة الحاضر والمستقبل.

سأطرح منذ البداية رؤيتي الخاصة لتحقيق الحداثة المثلى. . . أعتقد أنها تتحقق عبر تحليل أسس الصنعة الأصيلة إلى عواملها الأولية التي تحقق التواصل الأدنى مع المتلقي ، ومن ثم تركيبها بشكل يعكس ذاتية المبدع وسمات العصر.

لننظر فيما فعل الغرب.. لقد توجه في حداثته إلى تفكيك لغته الموسيقية إلى أصغر مكوناتها :الصوت الموسيقي ، ليكون العنصر الأساس في عملية التركيب، وهكذا نشأت مدرسة اللامقامية ، وهي تركيب الأصوات الموسيقية دون النظر إلى العلاقات التقليدية بينها، تلك العلاقات التي طالما أنتجت الخلايا اللحنية المحققة للتواصل مع المتلقي ، مما استدعى بالنتيجة تباعداً بين المبدع والمتلقي في الموسيقا الغربية الحديثة. لن يكون هذا مسارنا في فهمنا للحداثة..بل سنحاول أن نستند إلى عناصر عربية أصيلة أنتجت حداثة في زمانها.

وهنا تخطر بالبال أسئلة :

• هل كان التطور الحديث في الموسيقا العربية مندفعاً بنفس الدرجة ? لا أظن ، فقد شكل تراث الغرب المنهل الوحيد لتحقيق حداثة العرب ، وقد تم تحقيق ذلك دون أي انتباه إلى اختلاف مكونات اللغة الموسيقية.

• هل حكمت القاعدة التي اعتبرتها أساساً لكل حداثة حقيقية التطور الموسيقي العربي بحيث ارتبط هذا التطور دوماً بالتحليل والتفكيك وإعادة التركيب عبر التجريب، مما يسوغ لنا في حال ثبوت ذلك أن نستمر في نفس المبدأ مع الأخذ بسمات العصر الحالية؟ سنرى.

1- في بناء الغناء العربي وعلاقته بالشعر العربي.

لنجر منذ الآن مشابهة ستعينني على توضيح ما أرمي إليه .

الخليل بن أحمد الفراهيدييستند الشعر التقليدي العربي إلى عناصر أولية ، تم تركيبها بشكل ما ، فكان النظام الذي بني عليه الشعر العربي وهي:

• العنصر(الوتد أو السبب أو الفاصلة) وهو المفردة الأصغر،ويقابله في الموسيقا الصوت الموسيقي،أو نبضة الإيقاع.

• التفعيلة وهي الخلية الإيقاعية الأصغر وتنشأ عبر تركيب ما للعناصر، ويقابلها الجنس الموسيقي وينشأ عبر تركيب ما للأصوات الموسيقية المختلفة، وكذلك خلية الإيقاع الموسيقي الأساسي الأصغر )ثنائي أو ثلاثي) التي تنشأ عبر تركيب ما للنبضات الإيقاعية حسب اختلاف ضغوطها.وتجدر الإشارة هنا إلى اختلاف البنية الإيقاعية للتفعيلة عن البنية الإيقاعية للخلية الإيقاعية الموسيقية الأصغر.

• البحر الشعري وهو الخلية الأكبر وينشأ عبر تركيب ما للتفعيلات ، و يقابله المقام الموسيقي الذي ينشأ عبر تركيب ما للأجناس الموسيقية ، وكذلك الإيقاع المركب وينشأ عبر تركيب ما للخلايا الإيقاعية الأساسية.

• القافية وهي الخلية التي تنهي دورة شعرية واحدة ويقابلها في الموسيقا درجة الاستقرار ، ونهاية الإيقاع.

لا تستطيع هذه المشابهة أن تنفي أن الخلاف واضح بين مساري الشعر والموسيقا ،على الأقل في قابلية التطوير في اللغة الموسيقية أمام صعوبات تبني نفس الموقف في الشعر ،حيث التمسك بالأصول حاد وصريح ، ولكنها تؤكد بالمقابل صلاحية مبدأ التفكيك والتركيب استناداً إلى عناصر ذات ” شخصية” مكتملة.

1-1- تطور الإيقاع.

كتاب الموسيقى الكبيرارتبط الغناء العربي منذ نشأته بالشعر ، واكتسب منه في البداية إيقاعه، وهكذا كان الغناء في البداية إنشاداً محسناً للشعر، يداخله اللحن البسيط على نفس إيقاع القصيدة المغناة. وسرعان ما كان الغناء المتقن، مع طويس وعزة الميلاء وهو نمط غنائي جديد يعكس رغبة الموسيقيين في التخلص من قيد الإيقاع الشعري ، بسبب اختلاف الخلايا الإيقاعية الأساسية في الإيقاعين الموسيقي والشعري(تفعيلة ، ثنائي أو ثلاثي) ، وهكذا جاء اللحن فيه معتمداً على إيقاع موسيقي مستقل عن الإيقاع الشعري،مركب بشكل ذوقي،وإن كان متوافقاً مع الإيقاع الشعري (لضرورة ألا يشذ اللفظ المغنى في مدته الإيقاعية عما تعودت العرب أن تسمع ) ، في عملية تركيبية فطرية عجيبة يصفها الفارابي في مؤلفه الهام “الموسيقى الكبير” مقدراً روح التجريب عند طويس مبتدع هذا الشكل الغنائي الجديد الذي يمكن أن أسميه التوافق الإيقاعي أو “البوليرتمي”.

يصف الفارابي كيف أن طويساً كان يزين لباسه بالأجراس ويهز جسمه حسب الإيقاع الموسيقي المختار، ويترنم بالشعر حسب إيقاعه الشعري ، ويستمر في هذه العملية التجريبية إلى أن يجد التوافق الإيقاعي المطلوب، فيولد اللحن. وكم أحب أن أشابه هنا بين هذا الأسلوب والأسلوب التجريبي الفطري الذي ابتدعه سيد درويش في محاولاته البوليفونية في مسرحيته شهرزاد.

ككل إبداع تجريبي ،كان لابد من أن تأتي فترة هضم وتمثل له، وصياغة لقواعد تقوننه وتجعله صنعة مدروسة، وهكذا كانت الفترة الأموية والعباسية ، التي توصل فيها إسحق الموصلي ، إلى أن يتحقق التوافق المطلوب عبر تقسيم نبضات الإيقاعين على الورق لتحقيق مواقع التوافق بينهما، لأنه لم يكن بالإمكان الذهاب أكثر من هذا في التحليل والتركيب، لعدم إمكان التهاون في أي إساءة للفظ والنطق العربيين.

رسائل إخوان الصفاوهكذا ،وفي غياب أي تركيبات جديدة من قبل الموسيقيين التطبيقيين، اندفع الباحثون الموسيقيون في إجراء تركيبات نظرية جديدة للإيقاع الموسيقي،فجاءت طروحات الفارابي في كتابه “الموسيقى الكبير” لتفتح آفاقاً واسعة لإجراء تركيبات استند فيها إلى أسلوب رياضي يعرف حالياً بالمتوافقات والمتبادلات، في تشكيل مجموعات إيقاعية معقدة استناداً ْإلى خلايا إيقاعية أصغر.

وتابع إخوان الصفا المسيرة في رسالتهم الموسيقية ليعطونا مبدءاً آخر للتركيب سيكون له تطبيقاته الشعرية بعد مئات السنين ، حيث طلبوا من الموسيقي الحاذق إذا أحس بملل الناس أن يغير الإيقاع حسب أسلوب فريد ، يتلخص في التوقف عند خلية إيقاعية صغيرة من خلايا الإيقاع المركب المتداول (كانت الإيقاعات المتداولة ثمانية إيقاعات) ، ثم المتابعة في إيقاع آخر تكون الخلية المذكورة سابقاً موجودة في بداية تركيبه.أليس هذا مبدأ شعر التفعيلة الحديث اليوم حين ينتقل الشاعر من تفعيلة إلى أخرى ضمن نفس القصيدة?

وتابع صفي الدين الأرموي المسار ، في أبحاثه النظرية التي احتواها كتابه الأدوار، حيث أدخل بالإضافة إلى التركيبات الرياضية للإيقاع، فكرة استخدام الدوائر لتمثيل الإيقاع (كما فعل الخليل في دوائره العروضية)،ومن ثم تدوير الدائرة بمقدار نبضة إيقاعية واحدة بحيث قد ينتج عن ذلك إيقاع جديد.


كتاب الأدوار للأرمويبقيت أبحاث النظريين دون تطبيق فعلي في المشرق العربي ، نظراً للتمسك الصارم بقواعد نطق اللغة أثناء الغناء ، ولكن الأندلس، تلك البقعة العربية في قلب أوربا، البعيدة جغرافياً عن المشرق أتاح لموسيقييه أن يبدعوا في حرية أكبر ، وأن يطبقوا التركيبات الإيقاعية الجديدة في أعمالهم الغنائية، وخاصة في الموشحات، التي أصبحت تُلحن ثم ينظم الكلام حسب الإيقاع الموسيقي، مع إضافة لفظات كمتكآت لفظية ، حين يقصر النظم عن اللحن، مما أطلق حرية الملحنين وخلصهم من قيد الإيقاع الشعري أصلاً ، وهكذا وصل عدد النبضات الإيقاعية في أحد الإيقاعات إلى 176 نبضة إيقاعية ، تم تركيبها حسب قواعد الفارابي ، حيث سمي هذا الإيقاع :إيقاع الفتح.

وتطور إيقاع الموشحات في الأندلس في اتجاه جديد ، مع ابتداع الإيقاعات المتناوبة ضمن الموشح الواحد، الذي أصبح يبنى على إيقاعين مختلفين متناوبين.

هذا الامتداد الإيقاعي قابله أيضاً امتداد إيقاعي من نوع آخر ، تمثل فيما سمي مراسيم زرياب، حيث أصبح العمل الغنائي يشكل من مجموعة من الألحان المتتالية المبنية على إيقاعات متنوعة متسارعة.دعي العمل الناتج النوبة الأندلسية.

مع مرور الزمن ، تبنى المشرق الأساليب الجديدة وأصبحت موشحات المشرق وقصائده تلحن حسب الأسلوب الأندلسي.

وجاء العصر الغنائي الحديث محققاً العودة في البداية إلى الغناء المتقن في غناء القصيدة، وخاصة في قصيدة أبي العلا ، مع فارق واحد يكمن في التسامح في مد الحروف المغناة لأكثر من مدتها المعتادة، مع ثبات الإيقاع الواحد فيها .أما المونولوج فقد حقق تركيبات إيقاعية جديدة متنوعة في العمل الواحد. ولعل أهم تطور للألحان المصاغة في النصف الأول من القرن العشرين ، في الناحية الإيقاعية،كان في تمازج أسلوب المونولوج في التركيب الإيقاعي، مع القوالب الغنائية الأخرى التي كانت ذات بعد إيقاعي واحد.

لم تسمح العقود الأخيرة للغناء العربي أن يتابع في اتجاه تركيب الإيقاعات، لأن غناء المنوعات سريع الإيقاع سيطر على الغناء العربي ، مهمشاً كل تجريب وبحث حقيقي.

يمكن عبر دراسة موازية لتطور الإيقاع في الشعر العربي ، أن نلاحظ أن ذلك التطور ارتبط أيضاً بالتحليل وإعادة التركيب( التشطير – القوافي الداخلية- شعر التفعيلة..) ، وإن كان هذا يخرج عن دور هذا البحث. نخلص بالنتيجة إلى أن الإيقاع في الموسيقى والشعر تطور عبر عناصر نجملها فيما يلي:

• الامتداد الإيقاعي عبر التكرار والتناوب والتركيب الرياضي للخلايا الإيقاعية الأساسية، في العمل الواحد.

• الامتداد الزمني عبر تحقيق أعمال غنائية مترابطة في تسلسل إيقاعي معين.

• التزامن بين الإيقاعين الشعري والموسيقي.

• تحريك نبضة البدء في الإيقاع.

2-1 في اللحن:

1-2-1 في الأغنية الشعبية القديمة:

عندما نتفحص الأغنية الشعبية القديمة الموروثة ، نلاحظ أنها استندت إلى ألحان ضيقة المساحة الصوتية ، لا تتعدى الخمسة أصوات موسيقية المشكلة لجنس موسيقي ما، كما أن الجملة اللحنية اعتمدت على ارتصاف الأصوات الموسيقية بشكل متلاصق ، ولعل السبب في هذا يعود إلى أن التلحين كان يتم في الغالب بمصاحبة آلات موسيقية وترية كالرباب أو العود،ويتأثر بالتالي بأساليب العزف المرافق، ناهيك عن ارتباط الأغنية الشعبية بالكلمة المغناة..

الغناء الشعبي القديم لم يكن إذاً ممتد المساحة ليصل إلى اعتماد المقام، بل ارتبط في غالب الأحيان بالجنس الموسيقي فقط.أي أنه لم يصل إلى مرحلة التركيب المشار إليها، بل ارتبط بالمكونات الأساسية.

2-2-1 في الأغنية العالمة:

الأغنية العالمة ارتبطت، على العكس، بمساحة صوتية ممتدة أكثر( كما تدل كتابات الكندي وأبي الفرج الأصفهاني) وارتبطت بالتالي بالمقام الموسيقي – وتجدر الإشارة هنا إلى أنها احتفظت بتلاصق الأصوات المنوه عنه سابقاً نظراً لاستمرار ارتباط التلحين بآلة العود، بحيث أن أكبر فاصل صوتي لم يتعد على ما أعتقد الفارق الصوتي بين وترين متتاليين في آلة العود ( راجع كتاب الأدوار لصفي الدين والتدوين الموثق فيه).

مخطوط كتاب الأغانيرافق هذا التطور في المساحة الصوتية تطور في الجملة اللحنية التي أصبحت أطول،وقد وردت أولى الإشارات الدالة على هذا الاتجاه في كتاب الأغاني عندما أشار إلى أن ابن محرز كان الأول في جعل اللحن يمتد إلى زوج من الأبيات بدلاً من بيت واحد. استمر هذا التطور في الفترات التالية وخاصة في الأندلس حيث تطلب تطور البنية الإيقاعية المشار إليه سابقاً ،تطور طول الجملة اللحنية. ولو أردنا متابعة هذا التطور في العصر الحديث ، لأكدنا توجهه في نفس الجهة في الموشحات والأدوار أولاً ثم في ألحان محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي على وجه الخصوص.

تابعت الأغنية العربية العالمة امتدادها اللحني في اتجاه آخر ، هو الامتداد الزمني،حيث كانت النوبة الأندلسية المركبة من أعمال غنائية جزئية متتالية تجعل مدة أداء العمل الغنائي أطول بكثير، وتبعها الفاصل الغنائي المشرقي فضم أعمالاً غنائية متنوعة تم سبكها في قالب واحد، كفاصل” أسق العطاش “ الشهير وفواصل الذكر في بلاد الشام.

الأسلوب الثالث في الامتداد اللحني جاء عبر اعتماد تكرار أداء الجملة اللحنية نفسها،أو التناوب بين جمل لحنية متكررة.وقد كان الموشح الأندلسي أبرز وأقدم قالب يعتمد هذا الأسلوب حيث تشكل من لحنين يتناويان ويتكرران.

تابع الموشح هذا المسار في المشرق ، في أسلوب جديد تركيبي هو الآخر وهو تركيب الغناء الجماعي السائد في الأندلس ، مع الغناء الفردي السائد في المشرق، وخاصة في مدرسة حلب التي اختزنت الغناء العربي في الفترة الفاصلة بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع عشر الميلاديين، فظهرت الخانة ضمن الموشح، المؤداة من قبل المطرب الفردي لتواجه الأقسام الجماعية في الموشح،وتبع ذلك ظهور قالب الطقطوقة في مصر، الذي كان في البداية يعتمد على تكرار لحنين متناوبين ، ثم تحول مع زكريا أحمد إلى تركيب أعقد يعتمد على تكرار لحن ، وتناوب أربعة ألحان أخرى مختلفة.أما المونولوج فقد اعتمد في ذروة تطوره تركيباً حراً لا تكرار فيه، كما اعتمدت الجملة اللحنية الحديثة ، بشكل واضح على أصوات غير متلاصقة ، وخاصة في الموسيقا الآلية.

3-2-1 في المقامات الموسيقية.

من كتاب الأدوار للأرمويابتدع صفي الدين الأرموي (كتاب الأدوار) أسلوباً جديداً في تركيب المقامات الموسيقية ، معتمداً على أسلوب الفارابي الرياضي في تركيب الإيقاعات، وذلك انطلاقاً من خلايا موسيقية تماثل الأجناس في مصطلحات اليوم.رتب صفي الدين هذه المقامات الناتجة في دوائر تم ترقيمها ليصل عددها إلى حوالي مائة مقام موسيقي .استخدم صفي الدين أيضاً أسلوب الخليل في تبديل موقع النبضة الإيقاعية لابتداع بحور جديدة ، لكي يبتدع مقامات جديدة أيضاً عبر تحريك موقع درجة الاستقرار على دائرة المقام. مثال ذلك اعتماد دائرة مقام الحجاز على الدوكاه ومن ثم التوقف على درجة استقرار أخرى كالراست مثلاً فيتم تحقيق مقام جديد هو مقام النكريز، أو تحريك درجة الاستقرار في مقام الكرد على الدوكاه إلى درجة الحسيني عشيران ، فيتم تحقيق تصوير لمقام اللامي عليها.

تجدر الإشارة إلى أن أسلوب صفي الدين في التركيب لا يزال معمولاً به في مقاماتنا الحالية، فمثلاً إن ركبّنا جنس سيكاه على السيكاه مع الحجاز نوا نتج مقام الهزام ، بينما لو كان التركيب مع الراست على النوا لحصلنا على مقام السيكاه ، ولو كان النهاوند لحصلنا على مقام ماية ، ولو كان الصبا ، لحصلنا على مقام بستنكار على السيكاه وهكذا..

وتطورت المقامات الموسيقية بعدئذ باتجاه يجمع الأسلوبين : تغيير درجة الاستقرار ، وتركيب الأجناس الموسيقية ، وهكذا كان مقام الزنجران من تركيب جنسي العجم والحجاز مع استقرار على درجة الراست ، بينما يقودنا اعتماد نفس التركيب مع تغيير درجة الاستقرار إلى الجهاركاه إلى مقام آخر هو الشوق أفزا، وهو مقام موسيقي نادر اطلع عليه سيد درويش إبان إقامته في حلب ، واستعمله كثيراً في أعماله عندما اضطر لبناء ألحانه على مقامات لا تحتوي على ربع الصوت ، بسبب استخدامه لآلة البيانو في مسرحه كآلة موسيقية ضخمة الصوت ، في زمن لم يكن فيه ميكروفونات.ولو دققنا في المقامات الحديثة التي يطلع علينا بها الموسيقيون لوجدنا أنها لا تعدو كونها تركيبات ذوقية تعتمد نفس الأسلوب(مقام كرد أثر المعروف ، ومقام المريومة الذي ابتدعه أمير البزق محمد عبد الكريم رحمه الله).

مقام الصبا كان خاتمة مطاف التطور في تركيب المقامات، حيث تم تركيبه بشكل ذوقي من مجموعة من الأجناس الموسيقية المتعددة ، جعلت المقام يكون الأكثر امتداداً بين المقامات الموسيقية العربية من جهة، والأكثر انفتاحاً في أسلوب التركيب من جهة أخرى ، نظراً لأن جواب درجة الاستقرار لا يرد ضمن الأصوات الموسيقية المشكلة للمقام ، وهذه سابقة جديدة سنعتمد عليها لاحقاً في تبرير فتح تركيبات المقامات الممكنة ضمن آلية تنفيذ نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة.

لم يتوقف تطور المقامات الموسيقية عند هذا الحد ، فقد ظهر أسلوب جديد في العصر الحديث ، يعتمد التلوين اللحني في عمل واحد ، عبر استخدامات متزامنة أو متناوبة لدرجات استقرار مختلفة مع نفس التركيب، كما جاء في دور “ايمتى الهوى” لزكريا أحمد ، عندما تلون اللحن في بدايته بين مقام البيات الشوري وبين مقام الهزام وهو المقام الأصلي ، وقد تحقق ذلك عبر تغيير درجة الاستقرار مرحلياً ( دوكاه أو سيكاه ، لمقامات في مواقعها الأصلية ) وكذلك في قصيدة “أيظن” لمحمد عبد الوهاب ، حيث جاءت الأربعون ثانية الأولى من المقدمة الموسيقية معتمدة على صدامية الأصوات الموسيقية ، فيما  تلون اللحن عموماً بين مقام النهوند والكرد عبر تغيير درجتي الاستقرار من الراست إلى الدوكاه على طول مساره ( وقد قصد الأستاذ عبد الوهاب في هذا التلوين التعبير عن تلون العواطف في القصيدة)، وفي أغنية ” روحي وروحك حبايب” لفريد الأطرش ووردة الجزائرية .

يمكن التوقف أيضاً عند توظيف سيد درويش لأجناس موسيقية مختلفة ، في تشكيل عمل غنائي واحد و للتعبير عن تضادّات العواطف في النص ، وذلك في حوارية ” آن الأوان ” التي أتت في سياق مسرحية ” العشرة الطيبة ” ، التي عُرضت لأول مرة عام 1920 .

هناك أمثلة كثيرة على هذا الأسلوب المتطور في تلوين الأجواء الغنائية وتنويعها، تعكس في مجملها رغبة الملحنين في التطوير عبر تجارب فردية، لأن الدراسات في النظام المقامي التقليدي، لم تتابع للأسف ، لتحديد المنهج الذي يسمح للملحنين بتوجهات منهجية واضحة لتلوين الأجواء الموسيقية.

يمكن أن نخلص عبر استعراض ما سبق ، إلى أن الغناء العربي في تطوره اللحني، اعتمد كما في تطور بنيته الإيقاعية،على العناصر التالية:

• الامتداد اللحني طولاً وزمناً .

• التراكيب الجديدة للأجناس عبر التناوب والتكرار.

• تغيير درجة الاستقرار.

• القبول بمبدأ عدم اكتمال الديوان الموسيقي .

• تزامن استخدام مقامات على نفس التركيب مع تناوب في درجات الاستقرار.

من المؤسف فعلاً أن غناء اليوم ابتعد عن هذه المحاولات والتجارب الجدية ، ولعل ذلك يعود إلى محدودية الأصوات وعدم قدرتها على استيعاب تبدلات مقامية كثيرة..

ثانياً : الحداثة والعواطف المركبة.

لم يعد إنسان القرن العشرين يتمتع بعواطف بسيطة تعتمل في داخله..ولم يعد المجتمع بسيطاً في علاقاته كما كان ..فقد حلت المعاناة والقلق والشعور بالوحدة مكان الفرحة و الحزن و الألم ..بل لعلنا نجد اليوم في داخلنا عواطف قد لا تكون اللغة قادرة على تعريفها، تاركة المجال للموسيقا للتعبير عنها ، ولاشك في أن التعبير عن العواطف الإنسانية المركبة سيدفع الموسيقي إلى مزيد من التعبير اللحني المركب .

كيف السبيل إلى وضع القاعدة لتحقيق هذا ? إنها نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة.

ثالثاً : نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة:

كان لابد من الدراسة السابقة ، لكي نحدد العناصر التي حكمت تطور الموسيقا العربية، وذلك انطلاقاً من أن أي عملية تطوير لموسيقانا يجب أن تستند إلى التمسك بالهوية ، لا التمسك باتباع ما فعله آخرون في عوالم أخرى،عندما قبلوا أن موسيقاهم هي موسيقا شعبية ، ليس فيها إلا جمل لحنية بسيطة يمكن توظيفها ضمن أساليب الموسيقا الغربية الخالصة تحت عنوان الموسيقا القومية،لأنهم بهذا ألغوا كل جهد عالم قام به من سبقوهم .

على كل حال ما يهمنا الآن هو أن موسيقانا العالمة ، قادرة على فتح الطريق أمامنا للتوجه في تطوير عربي للموسيقا العربية، وفي اتجاه معاكس لتطور الموسيقا الغربية ، التي تخلت عن غناها المقامي القديم. سأحاول في نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة إعطاء حلول تلائم متطلبات اللغة الموسيقية العربية المعاصرة ، التي سارت ضمن ما سمي الموسيقا القومية ، وأصبح لها بالتالي تجربة فيها ، دون أن أخرج عن مسار الالتزام بالتراث ، مع نظرة واعية إلى متطلبات المستقبل.

1-1-3 في الإتجاه الأفقي ( اللحني ) :

نعرف أولاً الأجناس الموسيقية المعمول بها في الموسيقا العربية :

يتألف كل جنس موسيقي من عنصرين:

-1تتابع ما لمجموعة محدودة من الأصوات الموسيقية بتباعدات موسيقية محددة .

-2درجة استقرار تحدد استقرار اللحن المبني على الجنس الموسيقي المدروس.

يمكن تشكيل مقامات موسيقية كثيرة العدد ، إذا قبلنا إمكانية تطبيق أسلوب المتبادلات والمتوافقات المعمول به في الرياضيات، وهو أسلوب اقترحه الفارابي للإيقاعات أولاً ثم تبعه صفي الدين في اعتماده له في تركيب عدد محدود من المقامات ، نظراً للإمكانات المحدودة للآلات الموسيقية في عصره .

من أجل تنفيذ ذلك التشكيل في أفضل صورة لابد من اعتماد ما يلي:

  • إلغاء ارتباط المساحة الصوتية للمقام بإمكانات الصوت المؤدي، بحيث تصبح تلك المساحة الصوتية محدودة بإمكانات الأداء في الآلات الموسيقية العربية فقط. نسمي المقامات الناتجة ” المقامات الموسيقية المفتوحة”.
  • تشكيل المقام المفتوح إنطلاقاً من تركيب ذوقي تقبله الأذن الموسيقية العربية لعدد كبير من الأجناس الموسيقية مع عدم تحديد عدد الأجناس الداخلة في التركيب الناتج ( كان العدد لا يتجاوز عادة 3 أجناس في المقام التقليدي)

يبرهن على أن عدد المقامات الموسيقية التقليدية الناتجة من تركيب ما لثلاثة أجناس فقط ضمن المقام الواحد ، يصل إلى 1332 مقاماً . إذا قبلنا مبدأ الامتداد المطلق للمساحة الصوتية وعدم تحديد عدد الأجناس الموسيقية ، فإن عدد المقامات المفتوحة الممكنة سيصبح أكبر بكثير ، وقد يصل إلى آلاف المقامات.لن تكون تلك المقامات كلها قابلة للتعامل مع الموسيقا والأذن الموسيقية ، ولذا لابد من التمييز بين تركيب ما للأجناس الموسيقية وتركيب ذوقي لها.

يمكن تعميم النظرية إذا قبلنا أيضاً أن بعض الأجناس الموسيقية يمكن تعريفها عبر عدد محدود جداً من الأصوات مع درجة استقرار. يمكن مثلاً تعريف جنس البيات دوكاه عبر ثلاثة أصوات فقط ، لو بدأ عازف بها لقلنا أنه يبني على مقام البيات أو أحد فروعه، تلك الأصوات هي الدوكاه (درجة الاستقرار ) والسيكاه والجهاركاه، و كذلك مقام الراست المعرف بثلاثة أصوات هي الراست والدوكاه والسيكاه، وكذلك الحجاز دوكاه المعرف بالدوكاه والكرد والحجاز. أسمي تلك الأجناس “الأجناس الموسيقية الجوهرية “.

نحدد فيما يلي الأجناس الموسيقية الجوهرية المعرفة آنفاً :

( النهاوند- الراست-الحجاز-البيات-الكرد-العجم-السيكاه  )

سأعتبر أن كل جنس جوهري مستقل يعبر بالضرورة عن جو أو ” عاطفة بسيطة” ما.

أما الأجناس الموسيقية الأخرى فيمكن اعتبارها جنساً جوهرياً مع إضافة درجة استقرار جديدة (جنس النكريز ينتج عن جنس الحجاز الجوهري مع إضافة درجة الراست للاستقرار)، أو تلاصقاً لجنسين جوهريين ( الصبا على الدوكاه ينتج عن تلاصق البيات دوكاه مع الحجاز على الجهاركاه )

سأعتبر أن الجنس الموسيقي (أو العقد) يعبر عن عاطفة بسيطة داخلها شيء من التعقيد.

نلاحظ هنا أنني استخدمت جملة ” تلاصق الأجناس الموسيقية الجوهرية ” (التي تعني في المصطلحات السائدة : تداخل الأجناس الموسيقية).هذا المبدأ هو أساس نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة (أو نظرية الأجناس الجوهرية المتلاصقة والمتداخلة)، حيث سيؤدي اعتماده إلى جانب ما سبق واعتمدناه في تشكيل ما سمي المقام المفتوح، إلى فتح الطريق أمام تشكيلات ذوقية لانهائية تساعد المؤلفين الموسيقيين على التعبير عن عوالم اليوم المركبة، وعن حداثتهم ، ولكن دون الخروج على خصائص الموسيقا العربية هذه المرة.

ألخص فأقول إنه من الممكن تشكيل مقام مفتوح حسب الأسلوب التالي:

يعتمد المؤلف جنسا”موسيقياً جوهريا” ما ، وتكون درجة استقراره هي ” درجة الاستقرار الخارجية”. يشكل ابتداء” من الصوت الثالث تركيباً أول مع جنس جوهري جديد وتكون درجة استقراره “درجة استقرار داخلية ” سيؤكد اللحن عليها في خلاياه. يتابع التشكيل عبر جنس جوهري ثالث وهكذا مع استغلال كامل المساحة الصوتية المتاحة. ليس من الضروري أن يكون الجنس الجوهري الأخير في الطبقة الصوتية العليا جنساً مكرراً للأول إلا إذا أراد المؤلف ذلك.

يمكن تشبيه دور درجات الاستقرار الداخلية هنا بدور القوافي الداخلية في الموشحات أو في بعض أشكال الشعر.

لقد عبر اصطلاح “المقام الموسيقي” ،كعنوان لتسلسل ما للأصوات الموسيقية ، ضمن القواعد المعمول بها، عن الموقع الذي تستقر فيه النفس البشرية لدى استجابتها لسماعه، أما اصطلاح” المقام المفتوح” فقد يعبر عن عدم استقرار النفس البشرية في معاناتها المعاصرة ، وتوقها إلى عوالم أخرى.

أسارع فأقول للمعترضين بأنه قد يصعب تطبيق هذه النظرية في الغناء نظراً لمحدودية الأصوات الغنائية ، إنها موجهة أكثر نحو التطبيقات العديدة في الموسيقا الآلية نظراً للتطور المذهل في أداء الموسيقيين.كما أنني أقول ، لمن سيعترض بسبب صعوبة تطبيق المبدأ الذي وصفت آنفاً ، بأن الحل سيكون كما يلي :

  • نظراً للتطور الكبير الذي حصل مؤخراً في القدرات الصوتية للحاسوب الألكتروني، فإنني أقترح استخدامه في إنتاج التراكيب الموسيقية الممكنة ، انطلاقاً من الجنس الجوهري الأول الذي يختاره المؤلف ، والأجناس الجوهرية الأخرى.بعد اختيار الجنس الجوهري الثاني ، يتم اختيار الثالث بنفس الطريقة وهكذا حتى تشكيل المقام المفتوح كاملاً ،بحيث يعبر عن رؤية المؤلف للجو الموسيقي المطلوب ، وعندها يعتمد المؤلف الموسيقي هذا المقام المفتوح لوضع مؤلفه الموسيقي الجديد ، الذي تؤديه الفرقة الموسيقية.

أشير أخيراً إلى التعميم الأخير للنظرية ، وهو تشكيل تركيبات ذوقية انطلاقاً من تداخل الأجناس الموسيقية الجوهرية نفسها ، مع محافظة مسار اللحن على إظهار شخصية كل جنس جوهري على حدة، ودرجة استقراره، وتصادمية الاختلاف والتمايز فيما بينها.

2-1-3 في الإتجاه الشاقولي (التزامن ):

كان التزامن والتوافق كما رأينا عنصرين من عناصر تطور الموسيقا العربية، كما كان تآلف الأصوات من الطروحات التي جربها مغنون في العصر العباسي ( ابن مسجح ) وكذلك الكندي في أعماله الموسيقية. فيما بعد اعتمد المؤلفون الموسيقيون مبدأ التوافق الغربي في أعمالهم فأتت في غالبية الأحوال بعيدة عن الأذن الموسيقية العربية ، ليس لها هوية واضحة. تقترح النظرية تزامن وتوافق الأجناس الجوهرية الموسيقية وليس الأصوات الموسيقية، أي أن الأذن الموسيقية العربية مستعدة للاستماع إلى أصوات متزامنة شريطة أن تكون مرتبطة في مسارها اللحني الأفقي بجنس جوهري (أو عادي) ما، وذلك عبر إظهار كل مسار لحني متزامن للجنس الموسيقي الذي يمثله، لا أن تكون الغاية توافقاً صوتياً فقط .

يدرس العمل الموسيقي في نظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة كتزامن ألحان مبني كل منها على جنس موسيقي واضح.

أؤكد أخيراً على أن دور الحاسوب يبقى في مساعدة المؤلف على اختبار التراكيب الموسيقية ، وسماع الأجواء الناتجة ، أما الأداء الموسيقي النهائي فلابد من أن يكون مع فرقة موسيقية حقيقية ، لكيلا نفقد إنسانية اللحن ، ونخسر بالتالي كل ما سعينا إليه في التعبير عن معاناة النفس البشرية عبر التواصل معها في غربتها، التي كانت الموسيقا الإلكترونية ولا تزال ، من أهم عناصر تحريضها.

أرفق فيما يلي مثالاً تطبيقياً لنظرية الأجناس الموسيقية المتداخلة ، من أدائي وتأليفي على آلة القانون حيث بني اللحن على مقام الكرد أثر، مع إبراز العديد من الأجناس الجوهرية والعادية المتداخلة ، وأهمها تداخل جنس حجاز نوا (صول-لا بيمول- سي طبيعية) مع جنس تركيب (فا دييز -صول – لا بيمول)، مع إبراز تصادمية درجتي استقرار متلاصقتين تماماً ( فا دييز ، صول) وأشير هنا إلى الشيخ زكريا أحمد استخدم هذا الأسلوب في دور ” إيمتى الهوى”!. أعتقد أن الاستماع المباشر للتسجيل سيبرز دور هذا التداخل في التعبير عن العواطف المركبة التي يسعى اللحن للتعبير عنها.

تجدر الإشارة هنا إلى أنني قبلت في هذا العمل وجود جنس جوهري جديد لم يسبق أن أشرت إليه، تعبر عنه الأبعاد الصوتية المتتالية:

(3/2 ، 1/2) ينتج هذا الجنس الجوهري الجديد عن عكس جنس الحجاز الجوهري.

من الملاحظ هنا أن عكس أي جنس موسيقي جوهري ، لا ينتج جنساً جوهرياً جديداً إلا جنس الحجاز الجوهري ، الذي ينتج هذا الجنس الجوهري الجديد والذي أسميه جنس (أثر) الجوهري . يؤدى جنس أثر في التسميات الحديثة للأصوات الموسيقية كما يلي: :مي بيمول – فا دييز – صول مع مي بيمول كدرجة استقرار.


في حال الرغبة يمكنكم متابعة ” بوح الروح ” كما عزفتها للتلفزيون في عام 1989 وحولها الفنان التشكيلي الكبير إلى لوحة بصرية:


د. سعد الله آغا القلعة

Tagged , , , , , , , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading