الباحث د. سعد الله آغا القلعة لـ “تشرين الأسبوعي” : الأغنية العربية عنصر أساسي من عناصر الشخصية الثقافية العربية

شعار كتاب الأغاني الثاني

حوار : باسمة حامد تشرين الأسبوعي /العدد 102 تاريخ 6 / 3 / 2000

يعد الدكتور سعد الله آغا القلعة واحداً من الباحثين الموسيقيين العرب المتميزين ، نظراً لما يقدمه من دراسات وأبحاث فنية وبرامج تلفزيونية موسيقية ، ساهمت في إثراء المكتبة الموسيقية العربية وتطويرها، والباحث د القلعة هو أحد المكرمين في مهرجان ومؤتمر الموسيقا العربية العام الفائت، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تكريم موسيقيين من خارج مصر ، و بهذه المناسبة كان لنا معه هذا اللقاء:

قلت مرة أنك تعد كتاباً تختار فيه مئة أغنية عربية حتى نهاية القرن العشرين، ما المعايير التي اعتمدتها لاختيار هذه الأغاني؟

إن الأغاني التي تم اختيارها في هذا الكتاب هي أفضل ما أنتجته العبقرية العربية في القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين، وقد سرت في هذا الكتاب على نهج كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني في الاختيار والتوثيق. أما المعايير التي اعتمدتها فهي كثيرة جداً جداً ، تتصل بالقوالب والمقامات وأشكال الجمل اللحنية، بمعنى آخر ، أقول لك أن كل أغنية أتت بإضافة ما كانت من ضمن الأغاني التي تم اختيارها، مثال على ذلك أول أغنية أتت لقالب (المونولوج) لابد أن تأخذ نقطة أهمية لأنها شهدت ولادة هذا القالب، وأول أغنية أتت على قالب الطقطوقة لا بد أن تأخذ أهمية أيضاً في هذا الموضوع، ولكن هناك نقاط أهمية من نوع آخر مثلاً الغناء السعودي لم يكن معروفاً في سورية إلا لما أتت أغنية (بعاد) لمحمد عبده، إذ أن هذه الأغنية حققت انتشاراً كبيراً على مستوى الوطن العربي كله، وهي أول أغنية سعودية تصل إلى هذا المستوى الكبير من الانتشار ، فلابد أن يكون لها أهمية على صعيد الاختيار، فإذاً معايير الأهمية كثيرة جداً ولا مجال لحصرها.

أين يكمن دور الناقد الموسيقي في أي عمل فني؟

هناك مفاتيح لفهم أي أغنية، وهذه المفاتيح لا يستطيع الجمهور الوصول إليها ، لأنه يحكم بصورة عفوية ، فهو يحب هذا العمل أو يكرهه وهذا حقه… ولكن في كل مجال إبداعي ، وخاصة إذا كان هذا المجال يبحث عن الجديد ، لابد من وجود ناقد يبحث في هذا الجديد، لأن الإبداع ليس التحجر وليس التوقف عند ظواهر معينة دون إضافات، ولذلك قلت أن الأغاني الأهم في تاريخ الغناء العربي هي الأغاني التي أتت بإضافات.. هنا يكمن دور الناقد الموسيقي فهو الذي سيكتشف هذه الإضافات ويوثقها ويشرحها للناس وللمبدعين ، كي يتبنوها ويتابعوها ويطوروها، والناقد الحقيقي هو الموضوعي البعيد كل البعد عن الغايات والاتفاقات الشخصية والتجمعات الفنية ، فهو الذي يوثق الإبداع، وأنا أعتبر أن دوره هام جداً ، شريطة أن يكون هو في الأساس موسيقياً، وأنا لست مع الناقد الذي يدخل في هذا المجال دون أن يكون عارفاً بالمقامات والإيقاعات وأشكال الجمل اللحنية، وعليه أيضاً أن يكون ملماً بتاريخ الغناء العربي ، لكي يستطيع الحكم بأن هذا العنصر هل هو جديد أم هو تقليد.. ولكي يعرف كل هذه الأمور ، يجب أن يكون- على الأقل- قد استمع إلى آلاف الأغاني واختزنها ورتب في ذهنه مراحل تطورها.

قيل: “أن كل اهتمام بالأغنية العربية إنما هو اهتمام بالشعب العربي الذي يسمعها” ما دور الأغنية العربية في صقل أذواق الشباب؟

الأغنية- برأيي- هي مدرسة، وهي مجال للتعبير عن كل المقولات التي يريد المجتمع أن يعبر عنها، وهي في ذلك مثلها مثل القصة والرواية والمقالة، غايتها فائدة المجتمع لأن الأغنية تحمل نصاً ، وهذا النص يبقى في الذهن حيث يحفظه الناس ويتناقلونه أكثر مما يتناقلون قصيدة الشعر.. ونحن نعلم أن أحمد شوقي عندما تبنى المطرب محمد عبد الوهاب ودعمه ، كان متيقناً أن هذا الملحن العظيم صاحب الصوت الجميل سيجعل شعره ينتشر بين الناس، وهذا ما حدث بالفعل إذ أن لشوقي قصائد لا يعرفها إلا قلة من الناس. ولكن عندما غنّاها عبد الوهاب ذاع صيتها بعد أن كانت لا تحقق انتشاراً إلا بين النخبة المثقفة التي يبحث أصحابها في مجالات الشعر والأدب.. وأنا أقول لك أن الأغنية قادرة على الوصول إلى وجدان الجماهير، لذلك من واجب كل الملحنين والشعراء أن يحملوا هذه الأغنية المعاني السامية التي تسعى باتجاه تكاتف المجتمع العربي ودعم المفاهيم الثقافية، لأننا نعيش في فترة عصيبة فيها الكثير من التأثيرات الوافدة، وعلى الأغنية أن تعمل على تقوية الحس الوطني والقومي لدى الشعب العربي، لأن الأغنية حامل عظيم لأفكار سامية، وهي المجال الأهم بين مجالات الإبداع لأنها تصل إلى شرائح المجتمع كافة.

الأغنية العربية- برأيك- لمن يجب أن توّجه هل إلى فئة معينة أم إلى الشعب كله؟

الأغنية يجب أن توجهه إلى الكل، فنحن نعرف أن القصيدة المغناة قد وصلت إلى جميع شرائح المجتمع العربي، فقصيدة (الأطلال) مثلاً هناك الكثير ممن حفظها وهو لا يتحدث إلا العامية أو لا يعرف القراءة والكتابة. فإذاً كلما ازدادت درجة نضوج العمل الفني كان قادراً على الوصول إلى جميع الشرائح، حيث تجد فيه كل شريحة ما تحب.. وهنا تكمن قيمة الإبداع الفني.

كيف تقوّم علاقة الأغنية العربية ببناء شخصية الإنسان العربي؟

أنا أعتبر أن الأغنية العربية عنصر أساسي من عناصر الشخصية الثقافية العربية ، ولعلها العنصر الأهم لأننا نتعامل معها كل يوم وفي أي مكان.. ولكنني أريد أن أؤكد أن مشكلة الأعمال التي تقدم اليوم أنها لا تستطيع أن تجسد هذه الرسالة الكبرى، لأنها في معظمها قد فقدت السوية الثقافية، ولكي نحقق هذه الغاية يجب أن تحتوي الأعمال المقدمة في خلاياها على العناصر الثقافية الموسيقية (كالمضمون المعبر عن هذه الرسالة) ، وأن يكون العمل الموسيقي المرافق يعبر عن هذا المضمون، وأن يكون الأداء في أرقى أشكاله، عندها فقط يكون العمل الفني مجسداً لهذا العنصر من عناصر الشخصية الثقافية العربية.

كيف يمكن الاستفادة من مهرجان الأغنية السورية لتقديم أغان هادفة؟

المهرجانات بشكل عام تكتسب أهمية خاصة، إلا أننا بحاجة إلى سلسلة من التدابير التي تؤدي إلى تطوير الغناء العربي بشكل عام والغناء السوري بشكل خاص، ومن هذه التدابير مثلاً (التعليم)، إذ ينبغي علينا أن نهتم بتعليم الموسيقا العربية إلى جانب تعليم الموسيقا الغربية التي تدرس في المعاهد العليا ، وهذا شيء موجود في بعض الدول العربية كمصر مثلاً. فلكي نحقق نهضة موسيقية حقيقية ، ونقدم الموهبة المصقولة بالتعليم والدراسة والاطلاع على التراث العربي الغنائي ، لابد أن يكون هناك أساس تعليمي للمشتركين في المهرجان . وأنا أريد أن أسأل الملحنين الذين يلحنون في هذا المهرجان ، من منهم- غير الكبار- يعرف فعلياً كيف تطور التاريخ الغنائي العربي. ” ؟ أو كيف دخل كل عنصر جديد إلى الغناء؟  أو ما هي مظاهر التجديد التي حصلت والتي يجب أن يستند إليها أي منهم في التلحين؟  وأنا اعتقد- مع احترامي للجميع- أن أحداً منهم لا يعرف كل هذه الأمور ، وهذا ليس ذنبهم لأننا – كما قلت لك- نفتقد إلى مواقع تعليمية للموسيقا العربية فإذاً، مهرجان الأغنية السورية بوضعه الحالي يقدم ما يأتيه وما يأتيه هو أحسن الموجود، ولكن هل هذا الموجود هو أفضل ما يمكن أن يكون؟  بالطبع لا…

هذا شيء والشيء الآخر الذي أود أن أشير إليه هو مدة المهرجان ، التي لا تتجاوز الثلاثة أيام!  وثلاثة أيام في السنة لا تكفي لكي نحقق نهضة موسيقية.. والنهضة أيضاً تتطلب مواقع اهتمام ، فالمكان هام جداً لتقديم أي عمل فني ، فلماذا مثلاً لا يحوّل مسرح القباني إلى موقع لتقديم الأعمال الغنائية لعدد قليل من المستمعين ، وننقله للسادة المشاهدين عبر التلفزيون؟ وحالياً نحن نقدم أعمالنا الفنية لعدد كبير من الجمهور وفي الملاعب والصالات الرياضية ، وهذا ليس بالأمر الجيد لأن الجمهور في هذه الحالة يطلب أغاني إيقاعية ، كي يرقص ويتحرك معها. فإذاً مكان الاستماع يجب أن لا يتسع لأكثر من 300 شخص ، ونقدم أعمالاً غنائية كل أسبوع أو كل شهر ، بحيث نستطيع أن ننمي جمهوراً يستعيد طقوس العمل الإبداعي ، ويرفض العمل الرديء ..

فإذا لابد من اتخاذ سلسلة من التدابير لتطوير المهرجان ، رغم الجهود الطيبة التي تبذلها وزارة الإعلام ، والحقيقة أن الإذاعة والتلفزيون يقومان بالاهتمام بأغاني المهرجان ، حيث تذاع الأغاني عبرهما مرات عديدة وهذا أمر جيد.

بما أنك أشرت إلى أهمية المكان في تقديم أي عمل إبداعي ما رأيك باختيار حلب مكاناً لاستضافة المهرجان؟

إن اختيار مدينة حلب هو اختيار موفق جداً ، لأن حلب كانت ولفترة طويلة تمتد إلى مئات السنين ، مركز إشعاع موسيقي عربي لا يماثله في ذلك الوقت أي موقع ، لا القاهرة ولا غيرها من المواقع ، وهذا أمر معروف بسبب موقعها التجاري ، ونحن لدينا رغبة في استعادة هذه المكانة الفنية لحلب ، ومع استعادة سورية لمركزها العظيم في مجال الموسيقا العربية.

الأغنية التي لا تموت.. ما هي مواصفاتها برأيك؟

الأغنية التي لا تموت هي الأغنية التي تمس مشاعر الإنسان العربي مهما اختلفت عليه الأزمنة والمتغيرات… فهي تبقى في وجدانه وضميره وذاكرته وعواطفه.. ولاشك أن هناك مئات الأغاني التي لا تموت ، وهي في مجملها تعبر عن جميع عواطف الإنسان العربي ، وأشكال هذه العواطف من فرح وحزن وألم وتفاؤل وارتباط بالجذور والأرض  ، فكل أغنية تحدثت عن أي من هذه المعاني في الشخصية العربية ، بعواطفها وأحاسيسها وتطلعاتها فهي أغنية لن تموت.. وإذا كان اللحن قادراً على تلخيص كل مفاتيح الوجدان ، فهي أغنية لن تموت… وكلما كان المجتمع متماسكاً ، وكان التناقل الحضاري يتم فيه دون اختراقات ، فهذا المجتمع تبقى أغنيته لا تموت. لكن المجتمع الذي يفقد عراقته مع نفسه وجذوره، وأنا لا أتوقع هذا للأمة العربية- فكل أغانيه ستموت ، وهذا خطر كبير ، لأن الأغنية هي عنصر اللحمة التي تجمع عناصر المجتمع، وقد يصل مجتمع ما إلى مرحلة سيئة ، يخسر فيها ذاكرته الفنية وهذه مشكلة قاتلة.

هل من كلمة أخيرة تود قولها؟

أود أن أشير إلى أنني سعيت في الأعمال التي أقوم بها في تحليل وتوثيق واختيار وتصنيف، أن يشاركني بها كل الباحثين الموسيقيين العرب بآرائهم وكتاباتهم ، وأنا أوظف التلفزيون في هذا الموضوع ، لأن العملية الإبداعية هي مبدع وجمهور ووسيط بينهما (الناقد) ، وأنا أريد أن يصل ناتج هذا التحليل والتصنيف إلى الجمهور عبر التلفزيون ، كما أقوم الآن بتحويل كل هذه البرامج التلفزيونية إلى موسوعات حاسوبية ، يمكن الرجوع إليها والتعامل معها متى نشاء ، لأن التلفزيون يبث مرة وانتهى الأمر.. ولدي توجه الآن كي أضع كل هذه الأمور على شبكة الانترنيت كي تصل إلى كل أنحاء العالم.

باسمة حامد

 

Tagged , , . Bookmark the permalink.

Comments are closed.

  • هل تريد أن نعلمك عن جديد الموقع؟

    Loading